انها سورية حضارة وجغرافيا وشعب ، حالة فريدة في التاريخ ليس لأنها قلب العالم القديم ، بل لدورها الإنساني في نصرة وحماية المظلومين والهاربين من القمع والابادة.عبر العصور من الشركس الى الأرمن الى الأكراد الى الفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين …
لقد جاءت إلى سورية كل القوميات التي قمعها الاستبداد في أوطانها فكانت سورية الحضن الدافئ والملاذ .
لم يحدث أن طلبت سورية معونة دولية للمساعدة في نفقات الإيواء ، واغلب من لجا اليها آوى في بيوت اهلها آمناً .
وحدها سورية لم تطلب ممن لجأوا اليها ان يغادروها ولو زالت اسباب اللجوء واندمج الذين احبوها في نسيجها .. واليوم نجد أن الكثير من السوريين قد أصبحوا لاجئين في بلدان الجوار وفي بلدان أخرى عديدة .
ولكن ماذا عن حقيقة ما يجري في منطقة الشرق الأوسط من دمار ؟ نورد وجهة نظر وعلى شكل نقاط ..
· لم تكن الحروب غايات ، بل وسائل لأجل السيطرة على مصادر الطاقة ومفاتيح الاقتصاد العالمي تاريخيا .
· حروب القرن العشرين كانت تدور في فلك الاستيلاء على منابع النفط في الشرق الاوسط
· عام 1992 وقعت أوروبا على ( اتفاق كيوتو الذي يلزم الدول بالحد من تلوث الجو ), مما استدعى ايجاد بديلا عن النفط بسبب تراجع كميات الاحتياطي العالمي وارتفاع أسعاره نسبيا وعدم توافقه مع اتفاق كيوتو وبالتالي تلاشي الرغبة الاوربية بشرائه .
· الغاز يسمى ( بالطاقة النظيفة ) هو البديل الناجح للنفط , وتحتل روسيا المركز الاول لإنتاج الغاز 430 مليار طن سنويا ، بعدها ايران ، ثم قطر ، ثم تركمانستان .
· امريكا حاولت تدارك الامر من خلال التوقيع مع عدة دول على انشاء خط انابيب( نابوكو ) لنقل غاز تركمانستان (الاحتياطي الرابع عالميا ) عبر بحر قزوين واذربيجان وتركيا وصولا الى النمسا وبالتالي الى أوروبا ، دون المرور عبر روسيا ، وبذلك ستكون روسيا تحت ضغط (نابوكو) المدعوم امريكيا وبحماية الناتو .
· ردت روسيا قانونيا، من خلال اثبات ان قزوين بحيرة وليس بحر ، وهذا ما يمنع تركمانستان من مد انابيب غاز عبرها ، ايضا قامت بشراء كل الغاز التركمانستاني والاذربيجاني بعقود طويلة الأجل
· التفتت امريكا لإيجاد بديل لمشروع نابوكو ، عبر انشاء انبوب (( قطر – سعودية – اردن – [ سوريا ] – تركيا ثم أوروبا )).
· عام 2009 حاولت قطر والمجتمع الدولي اقناع الحكومة السورية بالسماح لمرور انبوب الغاز القطري عبر سورية ، تم رفض ذلك حفاظا على الحلفاء الروس !
· في نفس العام ، عقدت ايران اتفاقا مع العراق و سوريا لأجل مد انبوب الغاز الإيراني عبر العراق وسوريا الى تركيا والانفتاح على السوق الاوربية لتخفيف العقوبات وامتلاك ورقة للضغط من اجل مفاوضات الملف النووي آنذاك ، ولكن المشكلة هي ان (الانبوب الايراني) و (الانبوب القطري) سيتقاطعان في ريف حمص فيما لو نجحت قطر بمده !!
· عندها اصبح النظام السوري الرافض للأنبوب القطري الامريكي عقبة تحقيق الحلم القطري بإيصال الغاز لا وربا ، والارادة الامريكية بضرب سوق الغاز الروسية ، الخصم التقليدي .
· ويعتبر عام 2011اشتعال الحراك في الشارع السوري ضد النظام الحاكم ، وقامت كلا من قطر وتركيا وامريكا والغرب بتمويل الجماعات المعارضة لأجل اسقاط النظام وتحقيق مشروع القرن
· موقف الروس الداعم للنظام السوري ,هو نوع من رد الجميل ,لموقفه الرئيسي بمنع مد الانبوب القطري المنافس لهم ، والمتوافق مع موقف الايرانيين الداعم للنظام السوري, والمتقاطع مع انبوبهم ومصالحهم المشتركة في الإقليم .
· تركيا / ارد وغان ساندت مشروع قطر ، وامريكا من اجل كسب الثقة وتحقيق حلم بالانضمام للاتحاد الاوربي .
· رغم ان ارد وغان هو الرابح في كل الحالات ، فالمشاريع الثلاث ( الروسية ، القطرية ، الايرانية ) تمر من خلاله لأوروبا ، لذلك يلاحظ تنقله بالتحالف بين القوى المتصارعة لتحصيل عدد اكبر من المكاسب . وان الاستفتاء الدستوري التركي الجديد يُبين ان ارد وغان بحاجة الى أعداء اكثر من حاجته الى أصدقاء في الداخل والخارج.
· ولابد لنا هنا من الاشارة الى معاهدة لوزان” اتفاقية سلام دولية؛ التي وُقعت عام 1923 في لوزان بسويسرا بين كل من تركيا وبريطانيا وفرنسا، وتألفت من 143 مادة أعادت تنظيم العلاقات بين هذه الدول في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وينظر إليها الأتراك باعتبارها “وثيقة تأسيس للجمهورية التركية”، كما وصفها بذلك مرة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
· سينتهى العمل بهذه المعاهدة عام 2023 ويكون قد مر عليها مائة عام ومن هنا نلاحظ تصريحات أردوغان المتتالية بأنه بحلول 2023 ستنتهى تركيا القديمة ولن يكون منها شيء وستشرع تركيا في التنقيب عن النفط, وحفر قناة جديدة تربط بين البحرين الأسود ومرمرة تمهيدا للبدء في تحصيل الرسوم من السفن المارة .
· ومن هنا يمكننا فهم بعض أوجه الحرب الدائرة بين تركيا والغرب بضراوة شديدة.
· واشارتنا هنا الى الموضوع الاقتصادي النفطي, هو لمقاربة الاسباب العميقة في تلمس محاولة لفهم بعض جوانب الصراع الدولي والاقليمي على عقدة الجغرافيا السورية وخصوصا طرفي القطبين الدوليين, فالحرب تحتاج لوقود من الطرفين ، والطرفين غير مستعدين لإضعاف جيوشهم وبناهم العسكرية ، لذلك ذهبوا لخيار ( الحرب بالوكالة ) !
ترامب.. الدبلوماسية والحوار، ام القوة لفرض “السلام”
التصريحات والسياسة أكثرها اخفاء نقيض ما تعلن.. يقول تشرشل: “في زمن الحرب تصبح الحقيقة عزيزة تماماً ويجب حمايتها بالأكاذيب”. ستكون تصريحات “ترامب” اكثر وضوحاً، اذا ما ازاح المرء القشرة من الخطاب والمناورات الميدانية. فهناك حقيقتان تتعلق بأية دولة عظمى.. “ترامب” واضحاً في مواقفه وسلوكياته، إعادة الولايات المتحدة لقوتها كدولة عظمى تتفرد بقيادة العالم، تفرض ارادتها على اوروبا والصين وروسيا وايران وكوريا الشمالية والشرق الاوسط..
فالنظرة الواقعية والموضوعية تشير لتراجع دور الولايات المتحدة من دولة عظمى الى دولة كبرى.. والسبب الرئيس ليس سياسة الرؤساء الامريكيين السابقين، بل بسبب الارهاق والتفكك من لعب دور الشرطي العالمي، كما حصل في “فيتنام” و”افغانستان” و”لبنان” و”العراق”، الخ، وبسبب نهوض الامم والدول الاخرى اقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً، وهذه امور يصعب تغيير مسارات التاريخ فيها عبر التهديدات او عبر “الارمادا” الضخمة للسفن الامريكية المتوجهة لشبه الجزيرة الكورية.. و”الارمادا” هو اسم الحملة الاسبانية البحرية الكبرى بأكثر من 130 سفينة عام 1588 لغزو انكلترا، والتي بفشلها تراجع دور اسبانيا كدولة عظمى آنذاك.
قد لا نصل لمرحلة الحرب واطلاق الصواريخ.. لكن اذا ما انطلقت فسيخرج الجميع خاسرين. فكما دمرت الحرب العالمية الثانية بريطانيا وارجعتها للصف الثاني رغم انتصارها في الحرب، فان اي حرب جديدة ستعمق ازمة الزعامة الامريكية العالمية وترهقها وتكلفها وتدفع بها الى الوراء، وهذا ما يناقض الخطاب السياسي للرئيس “ترامب”.
فقراره العجول لقصف مطار “الشعيرات”، ودون تحقيق وغطاء شرعي، هو استثمار سهل الثمن، مأمون الجانب لعدم توقع الرد. عمل على توحيد قوى داخلية وخارجية واسعة كانت مترددة او معارضة او حالمة، كل حسب هدفه. شعوره بالنجاح قد يدفعه للضغط من موقع القوة والفعل على اوروبا وروسيا وكوريا الشمالية والصين وايران ودول الشرق الاوسط وغيرهم. وهذا كله سلوك واضح، لن يربكه الا الانزلاق فعلاً بأعمال اكبر من التصريحات والعمليات المحدودة والمحسوبة.
في الداخل السوري وانعكاس ما ورد على الواقع الاقتصادي يشير بواقعه الى قلة وجود سيولة نقدية وندرة المشاريع الإنتاجية وانخفاض تنفيذ الخطط التنموية الحكومية لقلة الموارد والتمويل وهجرة الخبرات الفنية العاملة واضمحلال فرص العمل الحقيقية ، يمنع السوريين من إمكانية الوصول إلى توازن مطلوب بين الدخل والانفاق. والليرة تتدنى قيمتها. فيما يتنامى اقتصاد الظل والفساد مما يشكل اعباء إضافية على السوريين ويلقي بأثره على الوضع الاجتماعي والتنموي والتعليمي والصحي ، وعلينا جميعا ان نفكر جليا بالأجيال القادمة ومستقبلها حيث التسرب من التعليم لأسباب اقتصادية وعدم الالتحاق بالتعليم لأسباب شتى منها الهجرة والمناطق الساخنة واللجوء والنزوح, وانتشرت ثقافة الدفاع عن الفقر في صفوفنا. وصار لها مرتكزات مسلكية وفكرية ، فان الفارق بين المناهج السليمة والخاطئة تبدأ بانحرافات بسيطة. الفقر جريمة.. والفقر كان تاريخياً يقود لاستغلال الناس.. والفقر لا يواجه بالترويج له بل بالقضاء عليه.
وسورية بغض النظر عن الأوضاع الحالية ، مجتمع كان يتمتع بدخل متوسط، وبطموح وعاطفة وحماس وقدرات تعبويه عالية، وبموارد بشرية وطبيعية عظيمة.. وهذه حالة جيدة، بل ملائمة تماماً، تسمح له للانتقال الى مجتمع ميسور وغني ومقتدر ومبدع ومبادر، اذا ما وضع نفسه في المسارات الصحيحة.. التي هي نتاج اعمال فردية وجماعية.. مخططة وعفوية توفرها بيئة كاملة ، وكثير من الخطط والسياسات.
وان الاقصاء للنخب والشرائح وثقافاتهم وممارساتهم القادرة على محاربة الفقر ودعم الفقراء وعدم مكافحة الفساد ( انشاء هيئة وطنية لمكافحة الفساد) هو استمرار لمسلسل الفقر والعوز ، حتى وصل بنا الامرالى ازدياد جيش الفقراء بما لا يطاق .
يضاف الى ذلك اجراءات حكومية بعيدة عن قراءة الواقع الاجتماعي – الاقتصادي ، الى حد اعتبار المواطنين المتعثرين بسداد ديونهم الى المصارف كمجرمين فارين من وجه العدالة ، وجب عليهم منع السفر وربما بيعهم في مزاد علني ، بينما تتداعى الحكومة بالحفاظ على المال العام وهيبة الدولة (ونحن مع هذا التوجه ولكن ليس في الأوقات العصيبة ) ويحق لنا ان نسألها عن الأموال التي كانت موجودة في المصارف العامة والخاصة والمنشئات العامة والخاصة التي ضاعت وسلبت في المناطق الساخنة والعديدة وفِي محافظات كبيرة والتي تقدر بمليارات الدولارات ( هل تم حصر وإحصاء هذه الأموال والخسائر ، هل تم تحميلها لجهة ما ، هل هناك إمكانية لإعادتها ، …)
هذه التناقضات الحادة تنعكس سلبا على المواطن الذي اختار التشبث بأرضه ووطنه ولم يغادره رغم الماسي والمغريات.
الشيء المؤكد ان عملية اعادة الإعمار في سورية بسبب الخراب والدمار الذي لحق باقتصادها ( صناعة ، زراعة ، سياحة …) وبكل القطاعات الاخرى يتطلب تشريعات وقوانين عادلة ( البنوك ، الضرائب ، التأمينات، التأمين ، الجمارك …) تراعي الحالة الاجتماعية والمناطقية ووقوع الضرر وضرورة جبر الضرر والتعويض …………..
الحلول موجودة مؤقتا ، فالجغرافيا والغاز السوري كفيل بحل مشكلة الفقر كما كان سببا في الحرب ، فاستثمار الغاز في الساحل السوري العاجل وفق العقود مع الشركات الروسية والتي تكون الضامن لعدم الاعتداء على منصاتها وآبارها وبوجود الحليف الصيني صاحب اكبر صناديق ادخارية في العالم ، بالإمكان توفير المال اللازم بضمان الغاز السوري من اجل الدفع باتجاه التنمية المستدامة والمتوازنة والتوزيع العادل للثروة والقضاء على ظاهرة الفقر والاطماع الدولية والإقليمية فيها ، ويساهم في الاستقرار باعتماد الحل السياسي والتشاركية في مستقبل سورية ، دولة المواطنة والمساواة وحقوق الانسان والديموقراطية وسيادة القانون .
هذه هي سورية الرقم الصعب في معادلة الحرب والسلام بالشرق الاوسط والحاضنة الانسانية الحضارية للعالم .
سورية للجميع وفوق الجميع …
والى لقاء اخر
المهندس باسل كويفي
Discussion about this post