قراءة في كتاب محمد صالح التومي/ المعروفي ” شجون نقابية في صفوف العمال والكادحين”
ا. عمار العربي الزمزمي
كانت و ناشط نقابي حقوقي من تونس
صدر الكتاب هذه السنة 2023 عن مجمع الأطرش للنشر .ويقع في مائتين وسبعين صفحة من الحجم الكبير مائتان وتسع منها تمثل متنه والبقية( إحدى وستين صفحة) عبارة عن ملاحق مصورة هي مؤيدات لما تضمنه الكتاب . بعضها صور لمقالات ورسائل وعرائض واستدعاءات وبعضها الآخر صور لاجتماعات ولقاءات وأشخاص .
والكاتب محمد صالح التومي/ المعروفي مثقف وطني تقدمي وناشط حقوقي ومناضل سياسي يساري مستقل تواصل حضوره على مدى نصف قرن من الزمان في ساحات نضال مختلفة .فبعد أن نشط في صفوف الحركة الطلابية التونسية في مطلع السبعينات من القرن العشرين انخرط في الاتحاد العام التونسي للشغل ثم عمل صحفيا منتدبا في لسان حاله جريدة الشعب في مرحلة مفصلية من تاريخه. وقد أهّله تكوينه كمحام للانضمام للحركة الحقوقية الناشئة في ظل مناخ قمعي فانخرط بالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان منذ تأسيسها وكان من المدافعين عن ضحايا القمع في ظل حكميْ بورقيبة وبن علي ودفع ثمن ذلك غاليا إذ تمت مساءلته قضائيا سنة 1993 وحاصرته السلطة وضيقت عليه في رزقه فاضطر سنة 2007 إلى إغلاق مكتبه وحظي بمساندة زملائه الذين أسندوا إليه صفة المحامي الشرفي. وقد أسهم في تأسيس أطر حقوقية وسياسية وفكرية مختلفة منها لجنة المحامين الدائمة لمقاومة التطبيع مع الكيان الصهيوني ومركز الدراسات والبحوث والتوثيق للمحامين التونسيين الذي تولى إدارته طيلة سنوات والجبهة الشعبية التي كان أحد أعضاء أمانتها .وقد انضم إلى مجالس تحرير نشريات مثل “أطروحات ” و ” الفكريّة” وتعامل كصحافي يحمل بطاقة مهنية – علاوة على جريدة الشعب التي عمل بها- مع صحف تونسية مثل
” الرأي” وعربية مثل “الهدف” لسان حال الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.واستطاع أن يوفق بين نشاطه الصحفي والتأليف حيث نشر الكتب التالية : 1 – حول الدين والدولة .2 – من أجل تعليم في خدمة الشعب .3- الإشتراكية والبيرسترويكا .4- تكوّن الأمم .5- أمة لن تموت ، من أجل نفس نهضوي عربي جديد عقلاني ومقاوم .6- استعمرونا من فضلكم. 7- أناشيد الأمل ((شعر). وتعكس مؤلفاته المنحى العملي لفكره ككاتب يساري حر ينبذ التحجر والدغمائية وتعدد اهتماماته والتصاق جهده التنظيري بما كان يجدّ على الساحات الوطنية والقومية والدولية من أحداث وما يقوم فيها من جدل فكري.
مسح لمحتوى الكتاب
* تصدير له بأبيات معروفة للصغير أولاد أحمد : نقابي ومعترفُ/ ومنضبط ومختلفُ / ونور الفجر يغمرني/ وهذا الليل منصرفُ.
والتصدير في انسجام تام مع ما يتميز به الكاتب من استقلالية رغم الالتزام.
* إهداء مطول .فقد توجه به الكاتب إلى شهداء الحرية من أقدم العصور إلى اليوم وإلى مناضلي الحركة العمالية في العالم وفي تونس ( مع ذكر أسماء بعض التونسيين) وإلى المغمورين المنسيين الذين ضحوا ومضوا في صمت . وهذا الاهداء غير المعهود يعكس حرص الكاتب على الربط بين البعدين الوطني والأممي الانساني .
* فهرست
* تقديم مطول نسبيا( 12صفحة) وفيه أوضح الكاتب تجاوزه للفترة التي كان شاهدا عليها من موقع المشارك فيها والتي تمتد من 1975 إلى 1981 إلى ما قبلها وما بعدها وذلك لتنزيل التجربة في سياق تاريخي أوسع وطنيا ودوليا .وبين الكاتب أن كتابه ” ليس بالسيرة الذاتية وإن كانت فيه مسحة واضحة وغير خافية من ذلك […]ولا هو بالتاريخ رغم أن الطابع التاريخي هو الطاغي” وأن طموحه هو ” أن يبقى شهادة على فترة زمنية تمتد من أواخر 1975 إلى أواخر 2011 يتقاطع فيها ما هو موضوعي بما هو ذاتي” .وأشار إلى أن مادة الكتاب الأساسية سبق أن نشرت أو ألقيت شفويا لكن أضيفت إليها تعقيبات وملاحظات تمت الإشارة إليها وهوامش تدقق ما يحتاج إلى تدقيق وتعدّل ما اقتضت السياقات الجديدة تعديله.
* مفاصل الكتاب
قسم الكاتب مادة كتابه إلى تسعة مفاصل .واللافت للانتباه أن عنوان كل مفصل منها تتصدره كلمة “شجون” مضافة إلى كلمة أو عبارة أخرى .والشجون تنتمي إلى القاموس الوجداني وهذا قد يوحي بأن الكاتب كان وهو يكتب أو يتكلم واقعا تحت سلطان مشاعرالحزن المتأججة التي قد تعمي البصيرة لكن الواقع غير ذلك فمشاعر الكاتب لم تكن عمياء وإنما جاء تواتر كلمة شجون ليعبّر عن تحوّل الشأن النقابي إلى همّ شخصي بالنسبة للكاتب يؤرقه حد الشجن حين يعاين قتامة الواقع والبون الشاسع بينه وبين المأمول .
1- المفصل الأول: شجون البدايات أو مسار زعيم: فرحات حشاد في ملحمة النضال الاجتماعي والوطني (في24 صفحة) وهو مقال نشر بجريدة الشعب بتاريخ 03 ديسمبر 1976 وأضيف إليه تعقيب طويل نسبيا . وفيه ربط الكاتب الحاضر بالماضي مذكرا بأن الاتحاد العام التونسي للشغل امتداد لجامعة عموم العملة التونسية التي تزعمها محمد علي الحامي و وضع المستعمر حدا لنشاطها بالقوة وللجامعة الثانية التي بعثها بلقاسم القناوي و استولى عليها الحزب الدستوري وأبرز الترابط بين البعدين الاجتماعي والوطني في نشاط الاتحاد منذ نشأته وأكد على سمة بارزة في شخصية حشاد وهي نظافة اليد والتعفف حتى أنه رفض مقترح رفاقه الزيادة في منحته كمتفرغ للعمل النقابي . كما كشف عن قربه من صالح بن يوسف أكثر من بورقيبة خلافا للحبيب عاشور ( وهذا سابق لحصول الصراع بينهما طبعا) .ولم يمنعه حبه لحشاد وإكباره له كزعيم نقابي ووطني من اعتبار انضمام الاتحاد بزعامته إلى السيزل قرارا غير صائب.
2 – المفصل الثاني : شجون الالتحام أو جريدة وانتفاضة ، حول ملابسات انتفاضة 26 جانفي /كانون الثاني 1978 ( في43 صفحة) .وهو محاضرة ألقيت بالاتحاد الجهوي للشغل ببن عروس في جانفي 2009 ونشرت بجريدة الشعب .وقد اعتبر الكاتب ما قدمه شهادة شخصية على حدث تاريخي لا تاريخا له .وتحدث عن الملابسات التي قادت إلى المواجهة بين الاتحاد والسلطة وعن الدور الذي اضطلعت به جريدة الشعب في تعبئة النقابيين والعمال بعد أن تطور محتواها وأصبح لها رواج كبيرحتى خارج الأوساط العمالية.حتى بلغ عدد النسخ المسحوبة منها أحيانا مائة وعشرين ألف نسخة بعد أن كان يتراوح بين ألفين وثلاثة آلاف نسخة .وتعرض إلى الوجوه النقابية الفاعلة التي برزت على الساحة بعد أن ضخ خرّيجو الجامعة دما جديدا في الاتحاد بما اكتسبوه من روح نضالية في صلب الحركة الطلابية وهذا من العوامل التي دفعت إلى طرح قضية استقلال الاتحاد كمنظمة جماهيرية عن الحزب الدستوري الحاكم والسلطة .
3- المفصل الثالث أو شجون الوفاء .إطلاق سراح النقابيين لكن مع السياسيين كذلك.(في 10صفحات) . مقال نشر بجريدة الرأي بتاريخ 19 أكتوبر 1979 ومطالبة الكاتب بإطلاق سراح المساجين النقابيين وإصدار قانون العفو التشريعي العام تعكس وعيه بأهمية هذين المطلبيين اللذين يمكن أن تلتقي حولهما القوى الساعية إلى إقرار الحريات الفردية والعامة .
4- المفصل الرابع : شجون الانغراس أو غرة ماي بين الذكرى والعبرة ( في 11 صفحة) وهو محاضرة ألقيت بمقر الاتحاد المحلي للشغل بسليمان سنة 1991 .وقد تجاوز الكاتب الحديث المألوف عن تاريخ غرة ماي ومغزاه ورمزيته للوقوف عند الترابط بين البعدين الاجتماعي والوطني في العمل النقابي في ظل إملاءات صندوق النقد الدولي والبنك العالمي علما بأن الاحتفال بعيد الشغل حصل في سنة شهدت هجوما للسلطة لا على حركة النهضة وحدها وإنما حتى على المعارضة اليسارية .
5- المفصل الخامس شجون التأملات أو الحراك النقابي إلى أين؟ تونس مثالا (في 34 صفحة) وهو نص نشر بجريدة الشعب في فيفري 2007 ووزع في كراس مسفّر على الفعاليات النقابية .واستعرض فيه الكاتب تاريخ العمل النقابي بتونس منذ العهد الاستعماري حتى مؤتمر الاتحاد السادس عشر في 2006 مبرهنا عن وضوح رؤية لأحوال المنظمة وللواقع الذي تتحرك فيه وللتحديات المطروحة عليها في ظل التعددية النقابية التي باتت من سمات الواقع .لذلك ركز على ما مر به الاتحاد من منعرجات وما واجهه من أزمات وما تعرض له من هجمات من سلطة الاستعمار ثم من سلطة الدولة الوطنية وما عاشه من صراعات داخلية وانقسامات .ولئن كان من الرافضين مبدئيا لهذه التعددية النقابية دون أن يصل ذلك إلى حد المطالبة بمنعها فقد أرجع ظهورها إلى مشاكل حقيقية ونبه إلى ما قد ينجر عنها من تصدع لوحدة الطبقة العاملة .
6- المفصل السادس : شجون المقاومة أو صفحة مغمورة من تاريخ الحركة النقابية التونسية( في 30 صفحة) . نص لم ينشر من قبل ويطغى عليه الطابع السيري .فقد تحدث فيه الكاتب عن نشاطه السري خلال الفترة الممتدة ما بين ضرب السلطة للاتحاد وسجن قيادته وكثير من إطاراته في 26 جانفي 1978 واستعادة الشرعية في مؤتمر قفصة سنة 1981 مع وضع فيتو على عودة الأمين العام الحبيب عاشور . وقد برهن الكاتب عما يتحلى به من نزاهة وتواضع وموضوعية .فلم يضخم دوره ولم يجعل الحديث متمحورا حول الذات بل حرص على ذكر أسماء كثير من الأشخاص الذين كانت لهم أدوار هامة في إصدارجريدة الشعب السرية وتنسيق عملية دعم النقابيين المسجونين وعائلاتهم واستعرض المواقف التي اتخذتها مختلف الأطراف النقابية أو السياسية التي كان لها امتداد نقابي وحوصل الجدل الذي قام حول الموقف من القيادة المنصبة : مقاطعتها وإحداث الفراغ حولها أم الدخول وافتكاك هياكل الاتحاد منها ؟
7- المفصل السابع: شجون الاستمرارية أو ما نصيب كادحات الأرياف؟ ( في 5 صفحات) .وهو مقال نشر في 23 اكتوبر 2005 ببوابة الهدف الإخبارية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين .
8- المفصل الثامن : شجون التواصل الاجتماعي ( في 10 صفحات) .وقد تضمن ثلاثة نصوص :
– النص الأول : موقف لا بد منه أمام التاريخ حول مسألة تمديد العهدات ، حذار من تصدع المنظمة العمالية. وهو مقال نشره الكاتب على صفحته بالفايسبوك في 27 نوفمبر 2020 ثم على بوابة الهدف في01 مارس 2021. وقد وضع الكاتب القضية في إطار عام مستعرضا حالات تمديد رؤساء وشخصيات اعتبارية ارتقت إلى مرتبة الزعامة لعهداتهم فخسروا رصيدهم على عكس آخرين أحجموا عن التمديد فظلوا رموزا تتمتع بالحب والتقدير. وآثر الكاتب أن لا يتموقع في صراع داخلي لمنظمة لم يعد ينشط داخلها لكنه عبر كمناضل ديمقراطي وطني يحمل الهم النقابي ويغار على الاتحاد عن مخاوفه من أن يقود الصراع كما هو حاصل بين انصار التمديد و المناهضين له إلى تصدع المنظمة .
– النص الثاني : اللقاء بين المنظمات النقابية وصندوق النقد الدولي لا يستقيم . وهذا ينسجم مع موقف الكاتب الذي يرى في هذه الهيئة أداة للهيمنة على الشعوب وتفقيرها يجب التصدي لبرامجها وإملاءاتها .
– النص الثالث حول الأرستقراطية العمالية .وهذا ينسجم أيضا مع مواقف الكاتب كيساري يؤمن بالدور السلبي لهذه الأرستقراطية في تخريب نضالات العمال وطمس وعيهم الطبقي وجرهم إلى ما يعرف بالنقابات المساهمة .
9- المفصل التاسع: شجون التثقيف النقابي ( في 18 صفحة) .وقد تضمن ثماني حلقات نشرها الكاتب على إحدى صفحات التواصل الاجتماعي ينشطها بعض النقابيين تحت اسم” الملتقى النقابي” . وهي تعكس وفاء الكاتب لماضيه النقابي
وحرصه على الاضطلاع بدوره التنويري.
* ما وراء الشهادة على الماضي وتوثيقه
لئن تركز الكتاب على شهادة الكاتب على ما واكبه من حياة الاتحاد العام التونسي للشغل في مفصل مهم من تاريخه بوصفه منخرطا فيه أولا ثم بوصفه صحفيا يعمل لحسابه بجريدة الشعب ثانيا فإن محمد صالح التومي/ المعروفي استطاع أن يعبر بوضوح عن رؤاه ومواقفه كمثقف منخرط في الشأن العام وكناشط حقوقي ومناضل سياسي يساري مستقل منحاز للكادحين وللشعب مؤمن بقيم الوطنية والحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية مدرك ما للاتحاد من ثقل في حياة البلاد بحكم ما دأب عليه منذ تأسيسه من جمع بين البعدين الاجتماعي والوطني .فقد أسهم في تحرير البلاد من الاستعمار المباشر وهو مدعو في رأيه اليوم للاسهام في تخليص البلاد من التبعية لقوى الهيمنة في ظل رأسمالية شرسة يقع تكريسها باسم العولمة ومجتمع مدني مخترق من حقوقيين يعيشون على تمويلات أطراف أجنبية هم في خدمة برامجها وأجنداتها ومعارضة يستقوي جزء منها بالأجنبي بدعوى البحث المشروع عن دعم القوى الديمقراطية في العالم ضد سلطة استبدادية متجاهلا طبيعة هذه القوى التي ترفع شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان بشكل انتقائي وفق ما تقتضيه مصالحها . ولا يمكن للاتحاد أن يسهم في صون استقلال البلاد وضمان الحرية والديمقراطية إلا اذا كرس في صلبه شعاراته وفي مقدمتها “اتحاد حر مستقل ديمقراطي ومناضل”.
ا. عمار العربي الزمزمي
كانت و ناشط نقابي حقوقي من تونس