الدكتور نبيل سكر[*]
- مقدمة
أدت اثنتا عشر سنة من الحرب الداخلية والعقوبات الاقتصادية وانقسام البلاد وتدخل الدول الأجنبية في شؤونها الداخلية، إلى تدني الوضع الاقتصادي والمعيشي في كافة أنحاء البلاد، متمثلاً بتدني الإنتاج والدخول وزيادة البطالة وندرة السلع الأساسية والمشتقات النفطية وارتفاع أسعارها، مما أدى إلى تدني الناتج المحلي الإجمالي إلى أكثر من النصف وإلى زيادة البطالة والفقر وتزايد الفروقات بين الطبقات، فضلاً عن زيادة الفساد والتهريب بالاتجاهين. وقد زاد الزلزال الأخير الذي ضرب البلاد في شباط من هذا العام (2023) من الأعباء المادية والبشرية على الدولة وزاد من معاناة المجتمع إلى حد كبير.
وقد عجزت الحكومات المتعاقبة خلال الأزمة على مواجهة تبعاتها المتعددة وعن إعداد استراتيجية متكاملة للتعامل معها، نظراً لعمق الأزمة وتشعبها من جهة، ولضعف الإدارة والمعرفة ولتدخل المصالح في سياساتها من جهة أخرى. وقد كانت واحدة من الحكومات السابقة قد أعدت في الفترة ما بين 2017 و2020 خطة تعافي اقتصادي وإعادة إعمار وإصلاح، أصدرتها بقانون تم نشره في الجريدة الرسمية بتاريخ 8/3/2020، ولكن الخطة تم إخفاؤها في الأدراج منذ ذلك الحين.
والحكومة اليوم تريد الإصلاح، ولكنها لا تريد العودة إلى الخطة أعلاه، ولا تريد الاعتراف رسمياً بعمق الأزمة، وهي لا تنشر المعلومات الدقيقة حولها حتى لا توقظ مخاوف المواطنين، كما وأنها لم تشكل خلية أزمة ولم تعد خارطة طريق لمعالجتها بشكل موضوعي وبمشاركة القطاع الخاص والمصارف والجهاز الإداري للدولة، متبعة بدلاً عن ذلك سياسات مالية ونقدية وتجارية تقليدية غير واضحة الأولويات، وكأننا لسنا في أزمة. ولكنها قامت بإجراءات لاحتواء تدهور سوق الصرف ولترميم ما يمكن ترميمه من البنى التحتية ضمن الإمكانيات المالية المتوفرة.
وتتضمن الصفحات أدناه عناوين لاستراتيجية تهدف إلى تحريك الاقتصاد في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة وإلى التخفيف من الآثار الاقتصادية والاجتماعية للأزمة على المدى القصير، تاركين مقترحات حل الأزمة على المدى المتوسط والبعيد إلى ما بعد التوافق السياسي الداخلي وعودة الاستقرار وتوحيد البلاد وخروج القوات الأجنبية والميليشيات منها، وإلغاء العقوبات الاقتصادية والسياسية المفروضة عليها.
- الاستراتيجية المقترحة
تركز الاستراتيجية المقترحة على أربع مرتكزات رئيسية، أولها زيادة الإنتاج على حساب الاستيراد، وثانيها رفع الدخول والأجور بدلاً من تجميدها، وثالثها احتواء التضخم كأولوية تسبق أولوية تثبيت سعر الصرف، ورابعها تخفيف المعاناة على المواطنين. وتشكل هذه المرتكزات الأربعة مكونات ما يسمى بالتعافي المبكر، الذي سيسبق عملية إعادة الإعمار وسيستمر معها.
فزيادة الإنتاج تزيد من العرض في السوق، ورفع الدخول والأجور يعزز الطلب على الإنتاج، كما وأن احتواء التضخم يخفف من المعاناة من جهة، وسيؤدي إلى تحييد أثر رفع الدخول والأجور على القوة الشرائية للمواطن من جهة أخرى. أما المرتكز الرابع، تخفيف المعاناة، فهو لمواجهة تزايد الفقر والتدهور الصحي للمواطن والسعي لتعزيز التصالح الاجتماعي، ولمنع الزيادة الإنتاجية من أن تتحول إلى ظهور الاحتكارات.
ولكن من المهم أن يتم تنفيذ المرتكزات الأربعة بنفس الوقت، دون تأخر أي منها عن المرتكزات الأخرى. ومن المهم أن تبادر الحكومة بتحمل مسؤولياتها، بدلاً من الرجوع دائماً إلى الجهات الوصائية، كما العمل على إعادة بناء مؤسساتها التي أرهقتها الحرب والعقوبات.
- زيادة الإنتاج
في سعينا لزيادة الإنتاج، وهو المرتكز الرئيسي، علينا إعطاء الأولوية لقطاعي الصناعة والزراعة على حساب قطاعي التجارة والسياحة، مع تأهيل قطاعي التعليم والصحة. وستتيح زيادة الإنتاج المجال لزيادة العمالة التي ستخفف من المعاناة ولتعزيز التصدير الذي سيخفف الضغط على سعر الصرف. وبالنسبة لقطاع الصناعة علينا إعطاء الأولوية لصناعات الطاقة المتجددة والري الحديث، كما لصناعاتنا التقليدية النسيجية والغذائية المعتمدة على المواد الأولية المحلية، وكذلك صناعة الأدوية، كما علينا تعزيز التنافسية وحماية الصناعة من المنافسة الخارجية إلى أن تقف على قدميها من جديد، كما علينا تعزيز دور المدن الصناعية الأربعة وتوفير حوامل الطاقة لها. فضلاً عن زيادة اعتماد الصناعة على الاقتصاد الرقمي، والسعي للارتقاء التكنولوجي من خلال البحث والتطوير (R&D).
وبالنسبة لقطاع الزراعة علينا وبالسرعة القصوى السعي لتأمين الأمن الغذائي من خلال كل من تعزيز إنتاج القمح والثروة الحيوانية، وإصلاح الأراضي التي خرجت من الزراعة خلال الأزمة، وتخفيض كلفة الإنتاج، وتوفير مستلزمات الإنتاج من بذور وأدوية وسماد، وتوفير التمويل والطاقة، واعتماد تقنيات الري الحديث. ولا شك أن اعتماد هذه الإجراءات ستمكن من تخفيض الدعم المباشر وغير المباشر الذي تقدمه الحكومة للمزارعين، والذي يحملها أعباء كبيرة.
ولكن لا بد من التذكير أن زيادة الإنتاج في قطاعي الصناعة والزراعة يحتاج إلى النهوض في قطاعات أخرى يعتمد عليها هذين القطاعين، وخاصة قطاع النقل الذي يحتاج وبشكل أساسي إلى المشتقات النفطية منخفضة الكلفة وكذلك القطاع المصرفي الذي سنتعرض له أدناه.
وبالنسبة لزيادة الإنتاج في القطاعات جميعها وفي كافة المحافظات، هناك أولوية لتعزيز حلقات الترابط ضمن القطاعات نفسها وفيما بينها، وأولوية لتوفير مستلزمات الإنتاج من المواد الأولية ومن المحروقات والطاقة، وأولوية لتشغيل الطاقات المعطلة على حساب إقامة طاقات جديدة. ولا يجب التقليل من أهمية استغلال الأصول المعطلة (التي ازدادت إلى حد كبير خلال الأزمة)، ويمكننا هنا الاستفادة من تجربة الدنمارك الناجحة في الثمانينات من القرن الماضي.
وأخيراَ، وفضلاً عن الأولويات أعلاه، فإن زيادة الإنتاج تخلق في الاقتصاد قنوات استثمارية إنتاجية جديدة ستغني عن المضاربة في سوق القطع وسوق العقار وعن الاستثمار في القطاعات الريعية الأخرى.
أدوار القطاعين العام والخاص في الصناعة
هناك دور أساسي ومباشر لكل من القطاعين العام والخاص الصناعيين لزيادة الإنتاج وتحريك الاقتصاد، وذلك من خلال رفع سوية مؤسساتهما الإنتاجية وتخفيض كلفها. لكن القطاعين يعانيان من ضعف تنظيمي داخلي ويعملان دون طاقاتهما الإنتاجية بسبب تدني الكفاءة والإدارة، وبسبب حجم الدمار والعقوبات التي أثرت عليهما. فبالنسبة للقطاع العام الصناعي هناك حاجة للإفراج عن حقيقة أداءه، وإعطاءه المزيد من الاستقلالية في القرار، وإفساح المجال لمجلس الشعب والإعلام والمجتمع المدني للتدقيق في أدائه، بهدف زيادة إنتاجه وإنتاجيته وتقليص كل من كلفه واستنزافه للمال العام، إلى أن يتم تخصيصه في وقت لاحق.
أما بالنسبة للقطاع الخاص فهناك حاجة لتوجيهه نحو الاستثمار الإنتاجي بعيداً عن الاستثمار الريعي، والاحتفاظ باستثماراته داخل البلد، ووقف كل من احتكاراته وتحالفات مؤسساته الكبيرة مع الأقوياء في السلطة، وحاجة لرفع أداء مؤسساته الإنتاجية الصغيرة والمتوسطة والكبيرة من خلال تنظيمها إدارياً واعتمادها على التكنولوجيا الرقمية الحديثة. وهذه مهام تقع على عاتق القطاع الخاص نفسه بالتعاون مع غرف الصناعة، وليس على الحكومة التي اعتاد على مطالبتها دائماً بالدعم والمساعدة، متغاضياً عن مسؤوليته هو في تحقيق هذه الأهداف. كما يجب تطبيق قيم الشفافية والمساءلة على نشاطه مثلما نطالب بتطبيقها على نشاط القطاع العام.
السياسات الاقتصادية والمؤسساتية لتحفيز الإنتاج
ومن جهة السياسات لتحفيز الإنتاج، على الحكومة تحسين مناخ الاستثمار، بما فيه تقليص البيروقراطية وتخفيض كلفة الأعمال وتوفير مستلزمات الإنتاج وحوامل الطاقة، وأن يكون لتحسين مناخ الاستثمار أولوية تفوق أولوية منح الإعفاءات الضريبية والجمركية السخية التي نص عليها قانون الاستثمار الجديد (القانون رقم 18 لعام 2021) وتعديلاته، وإزالة الرسوم الجمركية على المدخلات ورفعها على الكماليات، وبنفس الوقت إعادة التوازن للإطار الاقتصادي الكلي، والتصدي لاقتصاد الحرب وأمراءه.
كما على الحكومة تعديل وتفعيل قانون التشاركية، القانون رقم 5 للعام 2016 (استعداداً لمرحلة إعادة الإعمار)، وترميم ما أمكن من البنى التحتية، ورفع حجم وسوية الحماية الاجتماعية خاصة بالنسبة للطبقات الفقيرة، والاستمرار بالسماح للمصدرين بالاحتفاظ بمبالغ صادراتهم، مع مكافحة التصدير الوهمي والبحث عن أسواق جديدة، وإقامة المناطق التصديرية على الحدود البحرية والبرية بالتشارك مع القطاع الخاص، وزيادة إنفاق الدولة الاستثماري على حساب إنفاقها الجاري مع مكافحة الهدر والفساد في كلا الإنفاقين، والسعي لاستعادة رؤوس الأموال والعقول والخبرات التي هاجرت (من خلال تحسين المناخ السياسي ومناخ الاستثمار)، وتسهيل إجراءات الاستيراد عن طريق المصارف وشركات الصرافة. ومن الضروري التنسيق بين السياسات المالية والتجارية والنقدية، بحيث تتولى الأولى تحفيز الإنتاج والاستثمار، وتتولى السياسة النقدية لجم تبعات السياسات المالية والتجارية التضخمية، وذلك من خلال استخدام سعر الفائدة وغيرها من الأدوات المتوفرة لديها في الوقت الحاضر.
وأخيراً على الحكومة توجيه الجهود والأموال نحو المشاريع الإنتاجية ذات الأولوية، مجمدة مشروع ماروتا سيتي وملغية مشروع باسيليا سيتي الممتد على مساحة 897 هكتار ما بين محافظتي دمشق وريف دمشق، كما هناك حاجة لأن تفسح الحكومة المجال للتدفق الحر للمعلومات حول الوضع الاقتصادي والمعيشي الحقيقي، والإفصاح عن سياساتها الاقتصادية والاجتماعية، حتى يستطيع المواطن والصناعي والتاجر مناقشتها من جهة، والتصرف بمقتضى ما يتم الاتفاق على تفاصيلها.
وبالنسبة للسياسة المصرفية والمصارف، هناك حاجة أولاً لتوجيه التمويل نحو القطاعات الإنتاجية أعلاه دون القطاعات الريعية، وثانياً إعطاء أولوية لتمويل حوامل الطاقات المتجددة والطاقات الإنتاجية المعطلة، وثالثاً زيادة التمويل في المناطق المهمشة وفي الريف، ورابعاً توجيه القطاع الخاص المصرفي لوضع التمويل التنموي هدفاً قبل هدف الربح، والقطاع العام المصرفي لزيادة كفاءة تشغيله، وخامساً تقليص سياسة سحب السيولة من السوق من خلال رفع القيود على السحب النقدي بالعملة المحلية والعملات الأجنبية، وسادساً تحرير سعر الحوالات القادمة من الخارج، وسابعاً السعي لزيادة التمويل طويل الأجل من خلال تعديل وتفعيل قانوني التمويل العقاري (القانون رقم 15 لعام 2012) والتأجير التمويلي (القانون رقم 88 لعام 2010)، كما من خلال إقامة صناديق الاستثمار، وثامناً توسيع نشاط مؤسسة ضمان القروض للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتاسعاً معالجة الديون المتعثرة لدى المصارف، وعاشراً تعزيز الدفع الإلكتروني، وإحدى عشر تحسين إدارة المخاطر في المصارف الخاصة والعامة. ويقع عبء المقترحات أعلاه على كل من الدولة والمصارف نفسها والمصرف المركزي.
- زيادة الدخول والأجور
تشكل زيادة الدخول والأجور المرتكز الثاني للاستراتيجية المقترحة، وتعتبر هذه الزيادة حاجة ملحة لسببين، أولاً بسبب تدني معدلاتها الحالية التي لم تعد تكفي لتسديد عشر حاجات الأسر المتوسطة والفقيرة، وثانياً لزيادة القدرة الشرائية في السوق التي تعزز الطلب على المعروض الذي سينتج عن زيادة الإنتاج.
ولا شك أن زيادة الإنتاج ستؤدي إلى ارتفاع دخول المنشآت الإنتاجية الخاصة وبالتالي تعزيز قدرتها على زيادة أجور موظفيها، ولكن على الدولة من جهتها رفع أجور موظفيها إلى حد يتيح لهم العيش الكريم ويحميهم من إغراءات الدخل غير الشرعي، على أن تعوض الدولة عن هذه الزيادة من خلال مكافحتها للهدر والفساد في إنفاقها الجاري والاستثماري، وزيادة إيراداتها من ممتلكاتها العقارية، وتقليص التهرب الضريبي.
- احتواء التضخم
سيكون لزيادة الإنتاج وتسهيل إجراءات الاستيراد وزيادة العرض في السوق أثراً إيجابياُ على الأسعار، ولكن يجب أن تترافق هذه الإيجابيات مع سياسات حكومية مباشرة لمواجهة التضخم، بهدف تقليص الكلفة من جهة العرض وكبح الطلب من الجهة الأخرى.
وبالنسبة لتقليص الكلفة يجب تخفيف الأعباء على المنتجين والمستثمرين، وتعزيز التنافسية ولجم الاحتكار في السوق، مفعّلين قانون المنافسة ومنع الاحتكار (القانون رقم 7 لعام 2008)، وتعزيز سلسة الإمدادات داخل القطاع الواحد وما بين القطاعات، وتصحيح أسلوب الرقابة على الأسعار، والتوقف عن رفع الدعم الاستهلاكي في الوقت الحاضر، وتحسين الأداء التدخلي للشركة السورية للتجارة العائدة للقطاع العام، وضبط حدود البلاد الشرعية وغير الشرعية لمنع التهريب بالاتجاهين.
ومن جهة احتواء الطلب، هناك دور للسياستين النقدية والمالية، فعلى الأولى اعتماد سياسة تهدف إلى تثبيت الأسعار كأولوية تسبق أولوية تثبيت سعر الصرف التي كلفتنا كثيراً، وعلى الثانية تقليص عجز الموازنة ما أمكن، من خلال الإجراءات المذكورة أعلاه، والاعتماد الأكبر على سندات الخزينة في تمويل عجز الموازنة، علماً أن سياسات لجم التضخم الداخلي ستصطدم مع أثر التضخم العالمي الخارجي الناتج عن ندرة السلع العالمية وارتفاع كلفة الشحن البحري نتيجة جائحة كورونا والأزمة الأوكرانية.
- تخفيف المعاناة
يتطلب هدف تخفيف المعاناة مواجهة تزايد الفقر في الريف والحضر، ومواجهة ندرة السلع وحوامل الطاقة في السوق وارتفاع أسعارها، كما يتطلب منع زيادة الإنتاج من أن تتحول إلى زيادة الاحتكارات وبالتالي إلى تعميق ندرة السلع في السوق وزيادة أسعارها.
- المطلوب من المواطن والمجتمع المدني
للمواطن دور في الاستراتيجية المقترحة. فالمطلوب منه تفضيل المنتج المحلي على المنتج المستورد، وتقليص الإنفاق التفاخري، وترشيد استخدام النفط والكهرباء في سبل الحياة اليومية وفي العمل التجاري والإنتاجي. كما عليه احترام سلطة القانون والمطالبة بحقوقه والالتزام بواجباته.
كما على المجتمع المدني، ضمن حدود تواجده، دور بالمشاركة في اقتراح السياسات التفصيلية التي تتطلبها الاستراتيجية المقترحة، ودور في تعزيز التماسك الاجتماعي، ودور في مراقبة حسن التنفيذ من قبل الحكومة والقطاع الخاص، والسعي لتقليص الفساد في التنفيذ.
- النتائج على المدى القصير
ستؤدي الاستراتيجية المقترحة إلى تحريك الاقتصاد وزيادة العمالة كما إلى زيادة موارد الدولة من الضرائب والرسوم وتقليص الاستيراد وزيادة القطع الأجنبي في السوق، وهي إجراءات ستأخذ بعض الوقت. لكن هذه الإجراءات ستؤدي في البداية إلى زيادة العجز التجاري وعجز الموازنة وتدهور سعر الصرف والضغط على الأسعار نتيجة طبيعتها التوسعية، مما يتوجب على الحكومة الإعلان عن الاستراتيجية مسبقاً بكامل الشفافية وتوضيحها للإعلام بإيجابياتها وسلبياتها الأولية، كما يجب عدم التراجع عنها أو عن بعض ركائزها حين تبدأ سلبياتها الأولوية بالظهور، فالاستراتيجية هذه كل متكامل لا يتجزأ، وستطغى سلبياتها على إيجابياتها إذا لم تطبق بمرتكزاتها الأربعة بنفس الوقت وبكامل الجرأة والصراحة، وإذا لم يشارك القطاع الخاص والمجتمع المدني في تنفيذها.
- المدى المتوسط والبعيد
تهدف الاستراتيجية المقترحة، كما أوضحنا أعلاه، إلى تحريك الاقتصاد وتخفيف المعاناة على المدى القصير، ولا تتضمن مقترحات لمتطلبات إعادة الإعمار المادية والبشرية المقبلة ومتطلبات التنمية المحلية والمستدامة. ولكننا نؤكد هنا على الحاجة لبدء الاستعداد لمواجهة عائقين رئيسيين للإنتاج والإنتاجية في القطاعين الصناعي والزراعي على المدى المتوسط والبعيد. ويقع العائق الأول في القطاع العام الصناعي، بسبب اهترائه إدارياً وتكنولوجياً واستمرار استنزافه للمال العام، والثاني في القطاع الزراعي بسبب حيازاته الخاصة متدنية الصغر التي أفرزتها قوانين الإصلاح الزراعي وتطبيقاتها.
وفي معالجة هذين المعوقين هناك حاجة لتغير الذهنية السائدة بحيث تعطى للإنتاجية أولوية على العقائدية التي تصبح قاتلة بعد حين، وهو ما أدركه الاتحاد السوفياتي في أوائل الثمانينات من القرن الماضي. وما أدركنا نحن بعضه حين اعتمدنا “اقتصاد السوق الاجتماعي” في أوائل القرن الحالي. ويجدر بنا اغتنام فرصة تداعيات الأزمة العميقة والزلزال الكبير لاتخاذ قرارات تضع المصلحة الوطنية فوق العقائدية.
ولمواجهة معوق القطاع العام الصناعي، نعتقد أنه يتوجب البدء بالتفكير جدياً بخصخصة هذا القطاع في المدى المتوسط لعدة أسباب، أولاً حتى نستطيع استخراج قيمة مضافة من الاستثمارات الكبيرة التي تم ضخها فيه منذ أوائل الستينات، وثانياً، لوقف استنزافه للمال العام، وثالثاً، لأن كلفة إصلاحه من آلات ومعدات (والتعويض عما تم تدميره من آلات ومعدات خلال الحرب والزلزال)، أصبحت دون قدرات الدولة المالية، خاصة في ظل متطلباتها في عملية إعادة الإعمار المقبلة والمتعددة الأبعاد. ولكن على عملية الخصخصة أن تكون متدرجة وشفافة، محصنة من الفساد، وأن تكون عن طريق المناقصات والمزايدات وليس بالأمر المباشر والكتمان، والتأكد من أنها غير مؤدية لظهور قطاع خاص احتكاري بديل عنها. وسيزيد تحريك الاقتصاد المقترح أعلاه من قدرة القطاع الخاص على امتصاص العمالة الفائضة التي ستنتج عن عملية الخصخصة، والتي قد تزداد من خلال التوظيف الاجتماعي الكبير بعد الأزمة مثلما حصل في تونس.
وبالنسبة للحيازات الصغيرة التي تهيمن على القطاع الزراعي والتي تعيق إدخال المكننة والري الحديث وتقنيات زراعة الأراضي الجافة، فتكون معالجتها برفع سقوف الملكيات الزراعية الخاصة، بعدما زال الإقطاع إلى غير رجعة، وتحميل المالك الجديد مهمة توفير مستلزمات الإنتاج والطاقة على نفقته الخاصة، والسماح له ببيع محاصيله الرئيسية للدولة ولغير الدولة، ضمن خطط الدولة التوجيهية، وكذلك السماح له بإقامة تعاونيات زراعية خاصة، خارج تعاونيات اتحاد الفلاحين، مع توفير التمويل المصرفي للمزارعين صغاراً وكباراً.
وسيكون للإجراءين الصناعي والزراعي أعلاه واللذين أصبحا حاجة وليس خياراً، أثراً عميقاً على زيادة الإنتاج والإنتاجية خلال مرحلة إعادة الإعمار، وسيوفران للدولة المزيد من العوائد المالية لتمويل عملية إعادة الإعمار، مما سيساعدها على تقليص حاجتها للاستدانة الداخلية والخارجية التي ستتعاظم إلى حد كبير خلال هذه العملية.
وأخيراً ما جاء في المقالة أعلاه هو عناوين مكثفة لاستراتيجية ولمقترحات كل منها يحتاج لمقالة مفصّلة ونقاش عميق.
الدكتور نبيل سكر
4/06/2023
[*] المؤسس والمدير التنفيذي للمكتب الاستشاري السوري للتنمية والاستثمار، والاقتصادي السابق في البنك الدولي في واشنطن.
Discussion about this post