“السير الشعبية العربية بين الشفاهية والكتابية” عنوان البحث الذي تشرفت بإلقائه في مؤتمر “السير الشعبية العربية تحت المجهر السردي”، والذي نظمه مخبر تعليمية اللغات وتحليل الخطاب، بكلية الآداب والفنون بجامعة حسيبة بن بو علي، بمدينة الشلف، بالجزائر، والذي عقد يومي ١٩ ، ٢٠ يونيو ٢٠٢٣.
كما تشرفت بعضوية اللجنة العلمية لتحكيم الأبحاث المشاركة، خالص الشكر للدكتورة الفاضلة رتاج عشتروت.
وهذا تلخيص لمشاركتي العلمية:
تميزت الثقافة العربية بأنها ثقافة شفاهية، قبل الإسلام وبعده، وقد مرت السير الشعبية بفترة شفاهية امتدت لقرون قبل مرحلة التدوين.
فمن المهم المقارنة بين التلقي الشفاهي للسير الشعبية، وأحوال روايتها وأزمنتها، ودورها في حفز الهمم، وموقف الجمهور منها، والنظر في كيفية استثمارها أدبيا ومسرحيا وسرديا.
يعرف علماء الفولكلور السيرة الشعبية بأنها حكاية طويلة، بل هي أطول الحكايات على الإطلاق، فهي لا تروي حياة بطل واحد ولكنها تتعرض لكل الأبطال الذين التقى معهم أو حاربهم بطل السيرة الأساسي، كما تروي تاريخ قومه وقبيلته, وهي تحكى بالنثر، وقد تتخللها أبيات من الشعر المؤثر الذي يهز النفس؟ وتأليف السيرة الشعبية لا ينسب لمؤلف واحد ولكنه ينسب إلى كل الشعوب العربية، فالناس هم الذين يتوارثون السيرة جيلا بعد آخر، ويضيفون إليها في كل مرة أحداثا جديدة، يرون أنها معبرة عن المثل التي يؤمنون بها والتقاليد التي يسيرون عليها، لذلك فإنها ملك كل العرب مع اختلاف بيئاتهم، فلا توجد سيرة مصرية أو سورية أو مغربية، بل توجد سيرة هي نتاج الخيال العربي كله.
الشخصيات: أبوزيد الهلالي سلامة، الزير سالم، عنترة بن شداد،الظاهر بيبرس، حمزة البهلوان، الأميرة ذات الهمة.
مع قدوم العصر الحديث؛ اختفت كثير من السير الشعبية العربية؛ ولكن بقيت سبع سير منها وهي: السيرة الهلالية، وسيرة الزير سالم، وسيرة عنترة بن شداد، وسيرة الملك سيف بن ذي يزن، وحمزة البهلوان، والأميرة ذات الهمة، والظاهر بيبرس.
ومعظم السير العربية كانت تدور في فلك البطل الفرد الواحد، فعنترة هو بطل سيرة عنترة، وسيف بن ذي يزن، وعلى الزيبق، والزير سالم، حمزة البهلوان، والأميرة ذات الهمة، فجميعهم أبطال فرديون في تلك السير التي حملت أسماءهم، وعلى سبيل الندرة أن نجد بعضا من هذه السير يتناول بطلا آخر إلى جانب البطل الأساسي فيها، مثل الأمير عبد الوهاب في سيرة “الأميرة ذات الهمة”. على حد قول بعض الباحثين.
كما أن معظم أحداث هذه السير تتم في أماكن محددة، أي ليست متسعة في أماكنها. غير أن الأمر مختلف تماما في السيرة الهلالية، فهي سيرة جماعية تنقل لنا تاريخ قبيلة بني هلال؛ لذلك فهي متعددة من حيث الأبطال، وكلهم يقفون على قدم المساواة؛ لذلك فعنوانها الأكثر شيوعا هو “السيرة الهلالية” أو “سيرة بني هلال”. فأبطالها هم “دياب بن غانم”، و”السلطان حسن”، و”أبو زيد الهلالي”، كذلك اشتملت على أبطال ليسوا من بني هلال، فأثنت عليهم مثل “الزناتي خليفة” من تونس، و”الخفاجى عامر” من العراق، و”زيد العجاج” من بلاد الأندرين ونينه “إيران حاليا”. كذلك فهي متسعة في الأماكن التي تحدثت عنها، فلقد شملت أحداثها معظم البلدان العربية، مثل السعودية واليمن والعراق وفلسطين ومصر وليبيا ودول شمال أفريقيا، كما اشتملت بلدانا غير عربية مثل فارس والروم واليونان والحبشة. ولقد ساهم هذا التعدد في الأبطال والتنوع الجغرافي في زيادة الاهتمام براوية السيرة الهلالية؛ لأن كل بطل من هؤلاء الأبطال له مؤيدوه حتى الآن من القبائل العربية، فيتعصبون له ويدافعون عنه، ويعتبرونه البطل الأول للسيرة. فقبائل الأشراف مثلا تشجع أبا زيد الهلالي، أما قبائل الأمارة فيشجعون الزناتي خليفة، وتشجع قبائل الزغابة والهوارة الفارس دياب بن غانم الزغبي، والأمر نفسه مع السلطان حسن، والخفاجى عامر. إن كثيرا من المشاكل القبلية قد تنشأ أثناء رواية الراوي للهلالية بسبب التعصب القبلي
وكلها أسماء لشخصيات موجودة بالفعل في التاريخ العربي ولكن الحس الشعبي رأى أنه لا يكفي أن يقول فيها كتاب التاريخ الرسمي فقط ولكن يجب أن يقولوا هم أيضا رأيهم وأن ينسبوا إليهم البطولات التي تليق بمكانتهم، وتثير كل سيرة قضية من قضايا المجتمع في مرحلة تاريخية, ويمكن القول إن هذه السير يمكن أن تتكامل معا لتصير نوعا من التاريخ المتصل الذي كتبه الشعب من أجل أبطاله الذين يحبهم.
ولنا وقفة مع خصائص الشفاهية وتقنيات السرد الشفاهي في السير الشعبية،
ففي كتابه الشفاهية والكتابية يقارن والتر أونج بين الثقافتين الشفاهية المنطوقة والكتابية المدونة، ويبرز بعض أساليب التعبير والفكر في الثقافة الشفاهية في عدة نقاط من أهمها؛ أن الأسلوب الشفاهي أميل إلى عطف الجمل بدلا من التركيب والتداخل اللغوي، كما تتمتع الشفاهية بخاصية تجميعية؛ بحيث تتكون من عبارات متصلة وصيغ متكررة.
كما يميل الأسلوب الشفاهي إلى الإطناب لضمان استمرار العلاقة بين المتكلم والمستمعين، فيعين المتكلم بمنحه فرصة للتذكر وترتيب الأفكار ويساعد المستمع على المتابعة.
ويحرص الراوي على تقريب المعرفة ونقلها إلى الحياة الإنسانية، حيث يرتبط إلى حد كبير بعناصر الزمان والمكان التي يتم تداولها من خلاله.
الشفاهية عنوان أيضا على القرب من حياة الإنسان اليومية، حيث يلونها بخصائص الصراع والمشاركة الوجدانية، في مقابل الحياد الموضوعي -كما يذكر والتر أونج_ فالشفاهية تصنع المعرفة في سياق الصراع بإبقائها في عالم الحياة الإنسانية والتواصل اللفظي مباشرة، بما يتضمنه الصوت من عملية الأخذ والرد.
فالشفاهية تسمح للأجزاء غير المريحة من الماضي أن تُنسى بسبب مقتضيات الحاضر المستمر، مما ينتج عنه تنويع الرواة الشفاهيين في سردهم التقليدي؛ لأن جزءا من مهارتهم يتمثل في قدرتهم على التلاؤم مع المتلقين الجدد والمواقف الجديدة، وفي قدرتهم على التلاعب.
هذا، ومن أبرز توصيات البحث:
أولا: أهمية النظر في النص الشفاهي للسير الشعبية وعلاقته بالتلقي الفردي والجمعي في البيئات العربية.
ثانيا: الدراسة الأسلوبية والبنيوية لمدونات السير الشعبية والمقارنة مع النصوص الشفاهية المتوافرة لها
ثالثا: دراسة أبعاد التأويل للنفسية العربية الجمعية التي صاغت السير الشعبية وروجتها في جلسات سماعية.
رابعا: دراسة الأبعاد المكانية لانتشار السير الشعبية في أقطار عربية عديدة.