حول هجرة الجنوب – صحراويين إلى أوروبا…
فُسحة من التفكير…
استمعتُ للتّوّ إلى فيديو وقع إنجازه بليبيا الشقيقة بمدينة “زوارة” الشاطئية تحديدا، وهي بلدة شبيهة بمدينة “صفاقس” بتونس حيث يتخذها الوافدون من جنوب الصحراء كنقطة انطلاق نحو إيطاليا… ثم نحو ربوع أوروبا…
أحد الذين وقع استجوابهم يمكن تلخيص تصريحاته كما يلي :
أخبر في البداية أنه واحد من الذين نجوا من الموت في محاولة سابقة ل ” الحرقة” وأنه سيعيد الكرّة مرة أخرى.. رغم ذلك،
وقال أيضا : إنه كان شاهدا على عائلات بأكملها حاولت…. ” الحرقة” ويقصد الأم والأب والأبناء… وأن كثيرا من هذه العائلات انتهت بها المغامرة غرقا في البحر فريسة للحيتان طبعا… أو إن الأمواج رمت بهم على الضفاف جثثا هامدة…
كما قال… إنه لو علم بوجود مثل هذه الصعوبات لما أقدم على الهجرة من بلاده… ولكنه الآن – وبعد الخسارة التي مُني بها لا يمكنه الرجوع إلى الوراء… وإنه سيعيد المغامرة من جديد مهما كان الثمن ..
فلما سئل عن معنى ” الخسارة” أجاب بأن الرحلة نحو… ” الموت المطلّ ” تكلف مبلغا يصل إلى الألفي دولار … يُدفع إلى المهربين والسماسرة ومن وراءهم من المتاجرين بالبشر.. أي ما يعادل 6000 دينارا تونسيا… وقد دفعه في مرة أولى، وهو يحتفظ في مكان” سري” بمبلغ مماثل لمحاولة جديدة… ولا يهمه الآن إن كان الموت سيكون نهاية لهذه المحاولة ….
هالني ما سمعته….!
و أصابني ببهتة أردتُ تقاسم مفرداتها مع “أصحاب العقول والحِجى”….
و ما يجب التوقف عنده منذ البداية ، هو أن هذه الظاهرة ليست خاصة بإخوتنا الوافدين من جنوب القارة السمراء،
فهي ظاهرة ملحوظة في إفريقيا بجنوبها كما بشمالها، وبشرق أوروبا، وبالمكسيك المجاورة للولايات المتحدة الأمريكية… و ببلدان القارة الآسيوية …
كل هذه الشعوب يلاحق فقراؤها ثرواتهم المنهوبة منهم من طرف حكام المراكز الرأسمالية المسماة “متقدمة” ( ترى ما معنى التقدم هنا؟ ) والذين ( أي هؤلاء الحكام ) يتعاونون في ذلك النهب مع العملاء الكومبرادور الحاكمين لبلدان” الجنوب”، وهم ( أي. هؤلاء الفقراء هذه المرة)… لا يجنون من وراء تلك الملاحقة غير الفتات… إذ كثيرا ما ينتهون إلى أناس يعيشون على الهامش والشقاء بصورة ما أبعدها عن ” الأحلام الوردية” التي كانت تعشش في رؤوسهم نتيجة نجاح أعداد قليلة. جدا ممن سبقوهم في إحداث تغيير حقيقي في حياتهم… وقد يكون ذلك ” النجاح” بالزواج حتى بالعجائز أو ببيع المخدرات .
و وقوفا تحديدا عند مأساة إخوتنا الوافدين من جنوب الصحراء الإفريقية سواء لمحاولة العبور نحو ” أوروبا” أو للاستقرار “عنوة” أي بصورة غير قانونية ب “شمال إفريقيا” أي بالدول المغاربية : ليبيا والجزائر وتونس والمغرب الأقصى…. معرضين أنفسهم لسوء المعاملة، وحتى للاستعباد أحيانا حيث يتم تشغيلهم في أسوإ الظروف وبما لا يكفي حتى لسداد حاجتهم للطعام…
قلنا… ووقوفا عند ما سبق… فإنه لا بد أن نلاحظ بأن بلدانهم هي من أغنى البلدان في الكون من حيث الثروات الموجودة بباطنها من معادن ثمينة ونادرة من ذهب وألماس ونيكل وكوبالت وغيرها ، ومن حيث مصادر الطاقة، كما إن أراضيهم بغاباتها المطيرة وبأنهارها هي من أخصب الأراضي…. ولكنهم لا يستجمعون قواهم لتحرير أراضيهم من قبضة الاستنزاف الامبريالي ويفضلون اللهاث وراء ما سُرق منهم متنكبين سبيل ” الحرقة” نحو المراكز الرأسمالية التي تنهبهم، وذلك لأنهم لم يجدوا قوى سياسية ناجزة لتنظيم كفاحهم ضد النهب والاستنزاف…. فهذه القوى بقيت علي درجة من الضعف نتيجة تصفية رموزها( باتريس لوممبا وطوماس سانكارا أمثلة…) وهذا عامل موضوعي، كما نتيجة عوامل ذاتية لا بد من تدارسها بغاية تجاوز هذا العجز الباعث على الحزن والأسى لديهم كما لدى الشعوب المضطهَدة مثلهم …
وهكذا يجدون أنفسهم في فخ المكائد الامبريالية التي تحاول تحويل التناقض الرئيسي بينها وبين الشعوب المضطهَدة إلى تناقض داخل هذه الشعوب ذاتها ، هادفة من خلال هذا الأسلوب إلى صدّ “جحافل المهاجرين السريين” بمحاولة توطينهم عنوة ببلدان عبورهم نحوها ، مقابل التلويح لبلدان العبور هذه برشوات مالية مُغرية…
ولتكن نتيجة كل هذا هي الصراع المرير وحتى الدموي بين الوافدين وبين أهالي بلدان العبور… فهذا مما لا يهم المراكز الامبريالية في شيء….. فما يهمها هو فقط … المحافظة على نظام النهب والاستنزاف الذي لن تفكر أبدا في استبداله بنظام أكثر عدلا….
فهذا ما يطرح على الشعوب والأمم المضطهَدة مقاومة ذلك بالتوحد فيما بينها ، و بتنظيم قواها من أجل فرض هذا النظام العادل بكل الوسائل المشروعة….
وهو ما يستوجب بث وعي جدي وجديد بالمعادلات الكونية وإيجاد السبل التعاونية، وتنظيم التكاتف بين الأمم والشعوب بغاية إنجاز ذلك…..
فالامبريالية قوة عولمية، و لايمكن قهرها بدون إخاء أممي…. وهذا هو واجب القوى الوطنية – التقدمية في كل مكان….
فهل من نهوض ؟