أيْ هُرُوب يَتسِع لَنَا مَا دَامَت كُلُّ الأشْياء تَسكُن رُوحَك ،
لََا هُنَاك يَنتظِرك . . . ولَا هُنَا يَحتَمِل ثِقْله . . .
ضَاق البرَاح حَتَّى لَمٍّ يَعُد يَحتَمِل جناحيْ عُصْفُور اِتَّخذ قراره بِالطَّيران بعيدًا عِنْد المنْتهى . لَم يُحتَمَل تِلْك الجنَّة الزَّائفة اَلتِي تَذكرُك يوْميًّا أَنَّك لَاجِئ ومَنفي والْبلاد بَاتَت حُلْم هجر مناماتك .
كُلُّ أحْلامك صَارَت تَحْتاج إِذْن سفر وَجَواز سفر مُرُور مُؤَقتَة . تَمرُّن حواسِّك كُلَّ صَبَاح على صَوْت اِنكِسار قَلبِك . وَرائِحة الوجع اَلتِي تَخرُج مِن قَهوَتِك . وتشظِّي صَمتِك فِي مَلامِح وَجهِك العجوز .
لََا شئ يَنتَهِي . . .
الحرْب كمَا هِي مُنْذ سَنَوات تَجلِس معك على اَلكرْسِي اَلكبِير فِي زَاوِية البيْتِ خَلْف الشِّبَاك الزُّجاجيِّ تَرقُّب كُلِّ الَّذين مرُّوا ولم يلْفتوا نظر أحد .
تَقلُّب كُلِّ نَشَرات الأخْبار لَعلَّك تَسمَع صَوتَه اَلذِي رحل فِي الأيَّام اَلأُولى لِلْمنْفى . . .
سَقطَت الورْدة وَرحَل طَائِر الكناريِّ وَسقَط جُرحُك فِي قَلبِي فانْكَسر مَرَّة أُخرَى . . .
فِي الحرْب المسْتمرَّة ترى صَوْت اِنكِسار الرُّوح والْجروح النَّازفة والنَّدبات تُصْبِح عَلامَة بَقائِك حيًّا .
لِلْحرْب لَوْن وَاحِد هُو الرَّماديُّ . يَهجُرك الدِّفْء وَيصبِح الفيْء مُفرَدَة سمعْناهَا فِي أَساطِير الأوَّلين . والْملاذ لُغَة بَائِدة .
لََا شيَّ هُنَاك خَلْف الأسْلاك الشَّائكة ، وَحدَه المنْفى يَسمَع حفيف لُهَاثِك الصَّامتِ .
النَّهْر على الطَّرف الآخر مِن العالم يَختَبِئ تَحْت جُثَث الفارِّين مِن قَذائِف اَلهُون واسْتبْداد الطُّغَاة وَعُنف المهمَّشين فِي التِّلَال السَّبْع .
قسْرًا عليْك أن تَمرَّن اَلْحَواس على تَذوُّق القتْل اَليوْمِي . وَصدَأ اَلحدِيد اَلذِي تَكسِر فِي جَسدِك مِن فَرْط الأمل .
إِنَّ تَنْج مِن ضجيج وَحدَتِك يُعِن أنَّ هُنَاك جسد آخر قَابِل لِلْحيَاة أليْس كَذلِك .
البلَاد اِختفَت مِن رُوحك . وَتَلاشَت كُلَّ الذِّكْريات اَلتِي حفظتْهَا فِي قَلبِك . اَلحُب الأوَّل . صَوْت أُمِّك حِين ودَّعتْك بِالْمعوِّذتيْنِ . وَجبَة العشَاء السَّاخنة مع إِخوَتك وأحاديث السِّياسة والْعباد . وَصوَّر أَبُوك المعلَّقة على حِيطان بيْتكم اَلقدِيم . وَوجُوه اَلعُمال المبْتسمة فِي الصَّبَاح الباكر حِين يمرُّون على أَطرَاف المدينة البعيدة . والْأسْواق المكْتظَّة بِرائِحة اَلخُبز .
وَحدِي فِي الميْدان اَلكبِير لََا أحد غَيْر ظِلِّ الحمَّام حِين كان يَلتَقِط اَلحُب فِي النَّهارات المشْمسة . لََا أَعرِف لِماذَا وَحدُه يَقِف النُّصْب التِّذْكاريُّ لِنَصر زَائِف فِي الميْدان اَلكبِير يَرقُب ظِلَّ الَّذين مرُّوا هُنَا وضاعوا فِي بِلَاد القرْم .
فِي اَلعُبور اَلمُؤقت نَحْو قَلبِك . مَنحَت عُنُقي قُبلَة عَلِي بِلَون الأزْرق . كَانَت عُيونك آخر الأماكن اَلتِي تمْنحني بِلادًا دَافِئة .
نَحْو شَمَال لََا يعْرفنَا كان الغيَاب مِفْتاحًا جديدًا يُمْكِن فِي شَنطَة السَّفر . الحيَاة غافلتْ الحكاية . وَنَجونَا مِن فَرْط الموْتِ اَلذِي اِسْتوْطن ذَلِك النَّهَار الرَّماديِّ .
وَأنَا فِي مُدُن الملْح أُحَاوِل الشِّفَاء مِن المتوسِّط . تَعثرَت فِي النَّهْر . وارْتبكتْ بَيْن الخوذات والْأسْلاك الشَّائكة فِي مُؤقَّت لََا فِكَاك مِنْه . ، وَحدِي سُمعَت صدًّا وَجعَك حِين تحسَّسْتُ أَصابِعك قُبْلتي .
نجَا طَائرِي مِن ثِقْل قَلْب لَم يَعُد قادرًا على اَلعُبور اَلمُؤقت نَحْو رائحَتك . سَافِر بعيد رُبمَا فَوْق شَجرَة ثَابِتة شَهدَت كُلَّ قِصص النَّاجين مِن الموْتِ لِتسْتعيد الحيَاة ، صغيرَتي هجرْتُ قَلبِي نَحْو السَّمَاء حَيْث البلَاد الأخيرة .
وَأنَا هُنَا أَرفَع الرَّاية البيْضاء وَافرِد جناحيْ لِصَوت الموْتِ وأسْتريح فِي البلَاد القاتلة تمامًا كمَا فعل جِدِّي حِين كسَا الثَّلْج اَلبعِيد وغابتْ البلَاد .
بيسان عدوان
#جسد_أخر_غير_قابل_للحياة
#رسائل_الشتات
#المسافة_الصفر
#سيرة_السيدة_الكريتيلية