( ٢ )
* إن منطقة وادي الفرات ، لاتخلو من مواطن الجمال ومكامن الفتنة والسحر ، تثير الوجدان وتبعث الفكر ، تناولها الشاعر والقاص والمؤرخ والفنان والكاتب ، الذي يعكس أدبه صورة المجتمع بأحزانه وأفراحه ومشاكله وأمانيه. إن لمجتمعنا في الفرات تراث شعبي أصيل ، نابض بالحياة متعدد الفنون ، عاش عليه أبناء الفرات مدى قرون ، ومازالوا يعيشون عليه ، يطربهم ويُغذي مشاعرهم ويدعم قيمهم بأصالة هذا الأدب وتعدد فنونه الجميلة ،و غزارة الانتاج الفكري الفراتي التي تصف نواحي الحياة في منطقتهم ، ومشاكلها وقضايا تطورها واقتراح الحلول لمعالجتها . وهذا دليل على تاريخ وادي الفرات ذي الحضارات القديمة المزدهرة المعروفة للقاصي والداني ، فقد أخذ سكان هذا الوادي منذ منتصف الألف الثالث قبل الميلاد ، يدونون أدباً على رقم الطين ، حيث نشأت المكتبات في معابد المدن وقصور الملوك وبيوتات خاصة ، وقد اكتشفت بعض هذه المكتبات التي تُعد أثمن تراث تركه قدماء وادي الفرات . لم يعرف العالم القديم مكتبات أقدم فيها ، ولا أكثر محتويات وغزارة ادبية وعلمية مثلها .
لقد نبغ في منطقة وادي الفرات في كل العصور القديمة أعلام كثيرون في الأدب والفلسفة والعلوم … ، طفحت بتراجمهم وسيرهم العطرة الكتب القديمة . وقد شاركت المدن الفراتية القديمة مشاركة واسعة بالحركة الأدبية والفكرية . وكان للقبائل العربية في بادية الفرات في الشامية والجزيرة الفراتية شعراؤها وأدباؤها . وهم من يعتزبهم الأدب العربي ، وكتب عنهم الكثير على امتداد الوطن العربي . أمثال عمرو بن كلثوم التغلبي أحد أصحاب المعلقات ، وأبي زيد الطائي ، والأخطل التغلبي ، وأشجع السلمي وربيعة الرقي… ولقد شجع حكام وادي الفرات وأمراؤه في العصر الأموي والعباسي الحركة الأدبية وحركة التأليف وقربوا الأدباء والكتاب والشعراء وأجزلوهم العطاء .
هذا الخليفة عبد الملك بن مروان يرعى الشاعر الأخطل التغلبي وجعل له مكانة رفيعة في مجلسه . والخليفة هشام بن عبد الملك يستقبل الشاعرين الكبيرين جرير والفرزدق وآخرين في الرصافة . والخليفة محمد بن مروان يقرب الكاتب عبدالحميد الكاتب في الرقة ، ويجعله كاتبه في حران الفراتية ، والتي اتخذها مروان مركزاً للحكومة . وهذا زفر بن الحارث الكلابي حاكم قرقيسيا ( البصيرة ) في العصر الأموي ، وهو شاعر فارس وسيد قيس ، يرعى الشاعر التغلبي القطامي المنسوب إليه القصيدة الشهيرة :
قل للمليحة في الخمار الأسود ….
وقد أجزله العطاء. والخليفة هارون الرشيد يستقبل الشعراء في قصره على الفرات في الرقة ، يستمع إلى إنشادهم ويهبهم الجوائز المحرزة . فقد كانت الرقة آنذاك مركز اً أدبياً لامعاً .
وهذا عبدالله بن طاهر بن الحسين الخزاعي حاكم الرقة بعهد المأمون ، وكان أديباً وشاعراً ، وقد قرب إليه الشعراء وأغدق عليهم المنح ، أمثال : ( العتابي ودعبل الخزاعي وعوف بن ملحم…..)
بالمقابل نجد مالك بن طوق العتابي التغلبي حاكم ( الرحبة ) بالقرب من مدينة المياذين ، وكان جواداً شاعراً في عهد الخليفة العباسي المعتصم والمستعين ، يستقبل الشاعر العربي الكبير أبا تمام الطائي والشاعر الفذ البحتري ، ويستمع إلى قصائدهماالرائعة ، وقد استضاف الكثير من الشعراء والأدباء ، مما جعل الرحبة تشهد في عهده حركة أدبية رفيعة المستوى ، دوّنها التاريخ العربي .
لم تكن منطقة الفرات في عصر من العصور القديمة ، عقيماً ، بل كانت نبع للانتاج الأدبي والفكري ونبوغ الأدباء …انبعثت منها حركات أدب وعلم وتأليف وتيارات فكر خلاقة ، ساهمت بالحركة الفكرية العربية والانسانية .
خليل عبد اللطيف