في التنظيرات السياسية الديموقراطية ( وأنا من المتحمسين لها ) في الدول المدنية ، تحرص الايديولوجيات المختلفة والنظم الرأسمالية وأصحاب الأقلام والمناصب والاعلام ، من سياسيين وباحثين وأكاديميين ، على حصر الديمقراطية بجانب أحادي هو الديمقراطية السياسية، ويختزلونها بصندوق الانتخابات الذي يقصده المواطنون، كل أربع سنوات أو أكثر ، للإدلاء بأصواتهم، وهم تحت تأثيرات مختلفة، مصدرها المدرسة والجامعة والإعلام ومكان العمل الوظيفي (مع المؤثرات المناطقية والقبلية والعشائرية والدينية في شرقنا المتوسط ) ، وتتضافر تلك المؤشرات لتصنيع مواطن طيّع يقتنع بها (الدول الديموقراطية ) ، ويتوهم أنه صاحب القرار ، وبعد أن يدلي بصوته يذهب إلى بيته وانشغالات حياته، بينما يبقى الفائزون في الانتخابات يتصارعون على السلطة والمكاسب .
والنتيجة أن نجد في امريكا مثلاً ( الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي لا تختلف اهدافهما جوهرياً ) يتصارعان على السلطة والثروة ، إنها ديمقراطية اليوم الواحد، كلّ بضع سنوات .
ان النظر الى السلطة والثروة وتحالفهما باعتبارها هدفاً نهائياً، هي انكاراً للطبيعة العامة للسلطة، وتجاهل كون السلطة الديمقراطية هي وسيلة الاحزاب الى تنفيذ سياساتهم وبرامجهم الى الواقع، وهو لب المشكلة في الديمقراطيات المعاصرة او تلك الناشئة..
إن ما يجري في اغلب (ديمقراطيات التخلف ..) هو ان السلطات والثروات العامة ، تتحول الى وسائل اضافيه لتعزيز الاستمرار بالسياسات الديمقراطية الشكلية ، بمضامينها الكارثية اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً ، وتراجع التنمية واتساع رقعـة الفـقـر… ونشـوء طبقة الفساد السياسي والمالي والاداري الى غير ذلك من الامراض السلبية ذات الآثار الانعكاسية السيئة على المجتمعات .
ومنها الفساد، بشكل عام ( يعود بالفائدة على قلة من الناس على حساب الأغلبية ) ، ويعني إساءة استخدام السلطة الموكلة لتحقيق مكاسب ومصالح شخصية بدءًا من الرشوة والمحسوبية وحتى الاحتيال والاختلاس والكسب غير المشروع .
إن سياسات الإقصاء في الفضاء العام ، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً ، ادى الى الفقر والفساد ، وأفضى إلى تخريب البنى الوطنية ( اضافة الى الحرب ) وامتصاص طاقة المجتمعات وخلايا النمو والتجدد فيها وتأطير عمل المجتمع المدني ، واستدراكاً بالتالي إخفاق برامجها التنموية والسياسات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والصحية .. بما في ذلك تهميش دور هذه المجتمعات في الساحة العالمية ، وإنه بات من الملح الشروع في التغيير وإرساء قواعد الحياة الديمقراطية في العلاقات القائمة بين السلطة والدولة وبينهما وبين المجتمع .
إن مرسوم تنظيم الاتحاد الوطني لطلبة سورية ، كمنظمة شعبية طلابية وما بدا في نص القانون من استقلالية الاتحاد وحياديته اتجاه طلبة سورية ( باعتقادي ان الطلبة منذ بداية مراحل الدراسة وحتى اتمام الدراسات التخصصية ..) وعدم تبعيته للقيادة المركزية لحزب البعث ، مؤشر هام لتحولات جوهرية في السياسات القادمة ، من تنفيذ الدستور وفصل الحزب عن الدولة وما يلحقه من إعادة النظر بعلاقة الحزب بالمنظمات والنقابات وضرورة إعادة تأهيلها بالضم والحّل بما يتماشى مع التطور والتغيير وتراكم التراث الثقافي ووقف الهدر .. بعيداً عن استمرارية القواعد والأعراف المعمول بها
إن سورية تشهد إستقراراً مشهوداً ، من المفترض أن ينعكس ايجابا على الخدمات المقدمة للمواطنين، وبالتالي الغاء الصورة النمطية التي علقت بالأذهان عن المجالس المحلية والمحافظات ، والمحافظين الذين يقع على عاتقهم ومجالس المحافظات مهمتين كبيرتين ، رسم سياسة البناء والاعمار للمحافظات في المرحلة القادمة بصورة تختلف عن السنوات السابقة، والتمهيد للانتخابات البرلمانية القادمة ، وذلك يعتمد على إستعادة الثقة بجمهور الناخبين والتفاعل مع إحتياجاتهم ، ويعترينا الأمل بإصدار مرسوم تنظيم عمل البرلمان وإضافته الى الدستور قبل الشروع بانتخابات مجلس الشعب في منتصف هذا العام ، ليصبح برلمان ذو غرفتين اولهما مجلس النواب من النخب وثانيهما مجلس الحكماء من ممثلي المجالس المحلية والعشائر والشرائح الاخرى التي لم يتم تمثيلها في النواب ، ويكون تعيين 50% من اعضاءه لتحقيق التمثيل الأفضل ،مع ضرورة تحديث قانون الانتخابات بشكل كبير لبناء الثقة واختيار المواطنين لممثليهم في البرلمان بسلاسة ومشاركة حقيقية ومنافسة نزيهة وشفّافة ، لممارسة دورهم الهام بهامش واسع من الحرية في السلطة التشريعية مع الدور الرقابي للاداء الحكومي .
مع ما يرافق ذلك من الحرص على اختيار المحافظين وفق الاولويات التي تحددها سياسة الدولة ضمن اللامركزية الادارية الجاري العمل لتنفيذها وتعديلها لتتماشى مع التغيرات العميقة الحديثة والمطلوبة في التنمية المستدامة والتعافي المبكر وتعزيز الاستقرار ، عبر دولة المواطنة وسيادة القانون المدنية الديموقراطية .
إن نضوج المجتمع المدني السوري ، وتعددية الآراء والاجتهادات السياسية ، يستدعي الجميع الى المشاركة في مسيرة الإصلاح والانفتاح ، بالمشاركة الإيجابية وليس بالمقاطعة التي أثبتت كافة تجاربها فشلها بتصديها للتطور البرلماني الدستوري الذي هو أساس وجوهر أي عمل سياسي يسعى للتطوير والإصلاح من داخل البناء الوطني لا من خارجه ، بما يعزز أن سورية دولة واحدة للجميع ، وبالتالي على
الجميع إيجاد تلك الوسائل الدستورية لضمان هذا المفهوم بشكل مستدام .
ختاماً ، علينا العمل على إيجاد آلية دستورية تضمن عدم تداخل السلطات لاستعادة السيادة على كامل الحغرافيا السورية وتطبيق اللامركزية الادارية والديموقراطية التشاركية ، بما يضمن عودة الناس طوعاً وبدون خوف ، وبطريقة تؤمن لهم مشاركتهم في بناء بلدهم، وتكون حافزاً ايجابياً وضرورة لمعالجة مراحل ما بعد الصراع .
والى لقاء آخر ..
مهندس باسل كويفي
Discussion about this post