يدور مفهوم النُخبة غالباً حول الطريقة التي يتم من خلالها ممارسة القوة والنفوذ في المجتمع ، وتَركّز ذلك في أيدي قلة من الأفراد يطلق عليهم النخبة ، وهذا المعنى للنخبة يكاد يجمع عليه مفكروا النخبة إلاّ أنهم في المقابل يختلفون حول الأسس التي تُشكل النخبة أو المصادر التي تستقي منها هذه الفئة قوتها وسيطرتها بما فيها القدرات والكفاءات والخبرة والحكمة .
إن فهم التأثير في الساحة السياسية للنُخبة ، يستوجب منا معرفة واسعة الطيف للرأسمال السياسي وأهميته ، حيث تشكل النوايا الحسنة والثقة التي اكتسبها سياسي أو حزب سياسي في الأساس مع ناخبيهم , البوصلة التي توجه المسارات لدفع السياسات والتشريعات ، والتفاوض نيابة عن مكوناتهم ، لأن رأسمال السياسي ليس أحد الاصول الملموسة على عكس رأس المال المالي الذي بالامكان قياسه وتقديره ، حيث يكتسب الرأسمال السياسي قوته من خلال القيام بأشياء تحظى بتأييد شعبي و تستجيب بشكل جيد لحل الازمات ، بدلاً من تفاقمها وانعكاسها سلباً على السياسي وحزبه .
عند استخدامه بشكل استراتيجي لإنجاز الامور المعلقة في الساحة السياسية بحكمة وخبرة قبل نفاذه ( الرأسمال السياسي ) بمرور الوقت لأنه مورد محدود ويعتمد على المجتمع .
ويعد فهمه أمراً ضرورياً للأشخاص الأكفاء الذين يريدون المشاركة في السياسة ، من خلال إدراكهم أهميته في الديناميات المعقدة للساحة السياسية.
ولعل أهم مصادر الرأسمال السياسي المتنوعة تتوفر من خلال الكاريزما والشخصية و بناء شبكة اجتماعية قوية و تطوير خبرة متخصصة والسلطة المؤسساتية ..
بالمقابل هناك وجهات نظر مختلفة حول دور الشبكات في بناء الرأسمال السياسي ، كونها ضرورة لبناءه لأنها توفر منصة للأفراد والمجموعات لتبادل أفكارهم، واكتساب الدعم، وبناء العلاقات ، بينما يجادل آخرون بأن الشبكات يمكن أن تكون عائقاً لبناءه ، حيث يصبح الأفراد داخل الشبكة يركزون على أفكارهم الخاصة ويغفلون الصورة التشاركية ،
بالرغم من إنها توفر بناء الثقة والمصداقية والوصول الى المعلومات وتعبئة الموارد البشرية اللازمة للتأثير على الآخرين ، فإن ذلك يستغرق بعض الوقت والجهد مع الدعم والتشجيع .
إن تأثير الرأسمال السياسي هو القدرة على أعمال التغيير وقيادة جداول الأعمال ، ولذلك تكمن هنا أهمية السمعة ، التي هي أحد الاصول ذات القيمة السياسية وتعد انعكاساً لمصداقية الفرد والنزاهة والجدارة بالثقة. ، هذا هو الأساس الذي يتم فيه بناء العلاقات وتثبيت الثقة ، على المدى الطويل ، من خلال إدارة السمعة الاستباقية التي تعزز التشاركية وتحفز المبادرات لديهم ، حيث يعتمد النجاح على القدرة على الاستفادة من العلاقات وبناء التحالفات العامة ، بعيداً عن تحقيق الكسب الشخصي على حساب الآخرين ، الذي من تبعاته أن تكون العواقب قاسية ، لأنه من منظور أخلاقي، يمكن أن يؤدي سوء استخدام رأس المال السياسي إلى تقويض ثقة الجمهور في الحكومة والمسؤولين المنتخبين وانخفاض في المشاركة المدنية ، ويعرضهم للتحقيق والملاحقة القضائية .
في عالم السياسة، يلعب رأس المال السياسي دوراً مهماً في تحديد نجاح القائد ، إنه تراكم الثقة والنوايا الحسنة، والتأثير الذي يتمتع به القائد مع الناخبين وغيرهم من اللاعبين السياسيين .
يُعد قياس ومعايير رأس المال السياسي ضرورياً لفهم التأثير في الساحة السياسية ، هناك العديد من الأدوات والتقنيات التي يمكن استخدامها للقياس ، من الدراسات الاستقصائية إلى تحليلات وسائل التواصل الاجتماعي إلى بيانات الضغط التي يجتمع بها السياسيون أو مجموعات المصالح التي لها تأثيرها ، حيث توفر كل هذه الأدوات رؤى ذات قيمة لقوة السياسي وفضاؤه الذي يُمكنه من اتخاذ قرارات استراتيجية قابلة للتنفيذ .
من خلال مواكبة هذه الاتجاهات، يمكن للسياسيين الحصول على ميّزة في عالم السياسة المتطورة باستمرار ، ولعل تحليل واستقراء التحولات والتغيّرات والاتجاهات والتنبؤات المحيطة داخلياً واقليمياً ودولياً ، من الضروريات الهامة .
من زاوية اخرى ، فإن نماء الرأسمال السياسي بحاجة الى حزم في الإرادة السياسية لتجاوز هَرم وترهل الادارة التي تصيبها حالة ما يشبه الشلل في بعض الحالات ، وتعجز بالتالي عن تقديم حلول أو مفاتيح لفك شيفرات الانكماش والتردي الحاصل على مستويات مختلفة ابتداءً بالمعاناة المعيشية وصولاً الى الانغلاق السياسي . وقد تكون إحدى الحلول بتغييّر الادارات بشكل جذري ،حيث تكون استوفت كامل قدراتها في تقديم ما لديها من خطط ومبادرات وفق امكانياتها ، ولم تحظى بالنجاح المطلوب رغم الفرص المتاحة في العديد من الدول ، على أن يتم إعادة النظر للسياسات الموضوعة مع التقييم وتحديد النتائج والاهداف المستقبلية بعيداً عن المهاترات والتخوين والمصالح الخاصة والمحسوبيات والولاءات والانتماءات خارج المنظومة الوطنية وسياسات الترقيع السائدة .
وبالتالي فاختيار الادارة الناجحة تحتاج الى شخوص رجال دولة ” تشكيل النخبة ” لهم احترامهم وتصورهم عن أداء الخطط المحددة وفق العمل فريق العمل المتجانس والتشاركي القادر على تحمل مسؤولياته ضمن الصلاحيات الموسعة ، لحلول مستدامة بتقنيات علمية وعملية قابلة للتنفيذ .
إنني عدت الى سورية في أوج أزمتها ، وتفرغت للعمل العام التطوعي ، من يقين مطلق بضرورة العمل في إطار وطني فيها ، عدت للإسهام قدر الإمكان فى هندسة انفتاح سياسى تدريجي ، بانحياز علني لقناعتي بأن السبيل الوحيد للتقدم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لبلادنا يتمثل فى الإصلاح التشاركي بين مؤسسات الدولة مع الفعاليات السياسية والمجتمع المدنى والقطاع الخاص فى إطار المصلحة العامة ، وتزداد فيه مساحات الحريّات المرتبطة بالنشاط السياسي الوطني وحرية التعبير عن الرأى ، وتعزيز منظومة حقوق الإنسان بما يساهم في الحفاظ على استقرارها وسلامة أراضيها وسيادتها الوطنية.
وواصلت البحث عن مخارج آمنة من شأنها الحفاظ على استقرار الوطن بكامل جغرافيته ومجتمعاته مع الحفاظ على مؤسسات الدولة ( التي أصاب الترهل معظمها ..) وبين تحقيق التنمية الشاملة بمضامينها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية ، مع التنويه الى تجارب الدول ما بعد الصراع والتي نجحت في صناعة مسار تنموي شامل ومستدام ( فيتنام ، رواندا ..)
في تلك الأوقات ، واجهت موجات من التشكيك غير المقبول والمزايدة غير الموضوعية والتهديد والوعيد والتشويه من قبل بعض دوائر المعارضة والداخل وشخصيات عامة فاعلة على شبكات التواصل الاجتماعى .. رغم تفسيرى العلنى لمحددات وخلفيات موقفي ، إلاّ أنني منعت نفسي رغم الآلام وقدرتي على الرد ، عن التعاطى مع تلك الحملات اقتداءً بحرية التعبير عن الرأي ، ويقيناً بتغير رؤية البعض المشكك تدريجياً للتحول الموضوعي في تخيل مسارات الإصلاح الآمنة والتغيير الإيجابى لبلادنا ، متجنباً الدخول في المعادلات الصفرية التي تعيدنا الى المربع الأول ، من قناعات إصلاحية تشاركية ديموقراطية لإنجاز التغيير الإيجابى والتنمية الشاملة بعيداً عن الفساد العام .
كنت أدرك جيداً ولم أزل ، برغبة جميع السوريين أينما تواجدوا في استقرارها و تقدمها وتحقيق رفعتها والحفاظ عليها لمصلحة شعبها ، واستمررت في المواظبة على الكتابة رغم حملات التشويه غير الموضوعية ، حيث تبدو أحياناً رمادية كما يدعون وغير حاسمة ، وكنت أقول لنفسى ولعدد من الأصدقاء أن القناعات الإصلاحية والتوجهات الرافضة للمعادلات الصفرية والأحكام المطلقة تعنى فى الفكر والسياسة براغماتية القول والفعل، وأن البراغماتيين لهم فى تاريخ الأفكار والأمم والشعوب مكانتهم المحفوظة ، مبتعداً عن الادعاء باحتكار الحقيقة فالعمل يتحمل الخطأ والصواب ، ومن لا يعمل لا يخطىء .
لم أتوهم يوما ما ، أن المسارات الإصلاحية في الحوار السوري – السوري ( المُعقد والمتلكىء ) لن تواجهه انسدادات وتأثيرات من أطراف وقوى عديدة لا تريد لسورية انفتاحاً سياسياً في عملية بناء سورية الحديثة العادلة والتنموية ومعالجة الاختلالات المتراكمة فى مجالات الحريات وحقوق الإنسان والأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتعددة ، وإنما ستتم وفقاً لخط مستقيم لا تعرجات به ولا وقفات ولا خطوات متبوعة بعودة إلى الوراء ، مع ابتداع عقد اجتماعي جديد على نحو يضمن العدل والحق والحرية ” أقلها عدم تقييد حرية السفر والمغادرة والعودة .. ” ، وتلك هي من صعوبات الانفتاح السياسى بعد سنوات من الانغلاق ، إن الحوار السوري – السوري وبيد السوريين بأنفسهم لن يكون بحثاً عن «شاى بالياسمين» تقدمه الحكومة ، بل سيساهم فى الانفتاح السياسى وتنشيط النقاش العام حول أولويات الوطن الشاملة وفقاً للأولويات ودون رفع لسقف التوقعات فى الحاضر أو طرح لرؤى وردية بخصوص المستقبل دون تشاركية حقيقية .
وبناء عليه ، ومن أجل ان تكون قفزة التغييّر المستقبلية على ارض صلبة وليست في الهواء … علينا بناء مستقبلنا وعدم التهريب أو الاقصاء السياسي ومقاربة مسارات الاصلاح على المستوى العام والخاص ، والمرونة الضرورية في التعاطي بالملفات الداخلية والاقليمية والدولية .
في نفس السياق ، تأتي عباراتٌ بالغة الحساسية وردت في مؤتمر صحفي لوزير خارجية تركيا ” هاكان فيدان ” حول سياسة بلاده المستجدَّة بشأن سورية ، تحدَّث فيها عن “إنهاء الصراع”، ومنع نشوب صراع جديد (بين النظام والمعارضة)، و”نسيان الكراهية بين الجانبين”، والعمل على السلام وبناء المستقبل ، معتبراً أستانة نموذجاً تجب حمايته .
إن الطرح الموضوعى والالتزام بالقناعات الإصلاحية والبحث البراجماتى عن سُبل التغيير الإيجابى وعن فرص فعلية للإسهام فى تحقيق الأهداف هو غاية في حد ذاتها ، لتمكين بلادنا من تجاوز أزماتها الداخلية والتعامل مع المخاطر الإقليمية والدولية، عوضاً عن استهلاك الوقت فى صياغة الأحكام المطلقة أو إنتاج الخطاب الشعبوي ، ذلك مع احترامي الكامل لحقوق وحريات المختلفين معي ، إن بعبارات أو تصرفات لطيفة أو قاسية ،”فالفرص الباهرة تولد من الأزمات القاهرة ” لبناء دولة المواطنة والديموقراطية وسيادة القانون .
وكما قالت السيدة فيروز في أغنيتها ” خبرهم على اللي صاير بلكي بيوعى الضمير ”
والى لقاء آخر …
مهندس باسل كويفي …
Discussion about this post