كشفت نتائج الانتخابات التي شهدها المغرب في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) المنصرم، عن إصرار المغاربة على مواصلة مسلسل الإصلاح في ظل الاستقرار الذي ارتضوه لبلدهم، وانخرطوا فيه قاطبة منذ الثلث الأول من سنة 2011، بدءا من خطاب عاهل البلاد ليوم 9 من آذار (مارس)، مرورا بدستور 30 تموز (يوليو)، وصولا إلى انتخابات 25 تشرين الثاني (نوفمبر).
جدد المغاربة الثقة إذن في حزب العدالة والتنمية القائد للائتلاف الحكومي المنتهية ولايته، بتبوئه المرتبة الأولى بعد فرز النتائج بمجموع 125 مقعدا؛ في الغرفة الأولى من البرلمان -مجلس النواب- التي تضم 395 مقعدا، وهي المعادل التمثيلي لما مجموعه 92 دائرة انتخابية، حصل فيها هذا الحزب على مجموع أصوات تجاوزت بقليل مليون و800 ألف صوت.
استقبل محمد السادس تماشيا مع مقتضيات الفصل 47 من الدستور، عبد الإله بنكيران الأمين العام لحزب العدالة والتنمية المتصدر لهذه الانتخابات؛ وعينه رئيسا للحكومة التي تكلفه بتشكيلها بعد إجراء مشاورات مع تلك الأحزاب السياسية التي نجحت في حصد مقاعد لها بالبرلمان. ويقدر عددها ب 12 حزبا سياسيا من أصل 28 حزبا، ممن قرروا دخلوا غمار المنافسة بغية تجاوز سقف العتبة المحدد بـ 3 في المائة في هذه الانتخابات.
تكشف النتائج إذن أن هذا الحزب لا يحتاج سوى إلى ثلاثة أحزاب في أقصى الاحتمالات، بغية الحصول على الأغلبية التي حددت في 198 مقعدا داخل البرلمان، وهو ما يؤهله لقيادة الحكومة لولاية ثانية يمتد أمدها خمس سنوات حتى منتصف عام 2021.
يظهر تتبع تفاصيل متغيرات المشهد الحزبي المغربي المعقدة جدا، أن السيناريو العملي والأوفر حظا للتطبيق في النسخة الحكومية قيد التشكل، بين مختلف التخمينات التي قدمت هو إقامة ائتلاف حكومي بالأحزاب نفسها التي كانت في النسخة الأولى من الحكومة التي أفرزتها انتخابات 2011، قبل أن يلحقها تعديل بانسحاب حزب الاستقلال ودخول حزب التجمع الوطني للأحرار سنة 2013. وضم حينئذ كل من حزب العدالة والتنمية، حزب الاستقلال، حزب الحركة الشعبية، حزب التقدم والاشتراكية.
بعيدا عن تكهنات التقسيم الوزاري، وعدد الحقائب الوزارية، والأسماء المرشحة للاستوزار مما تعج به ساحة النقاش والتحليل السياسي في المغرب، نتولى هنا عرض أهم مميزات هذا الخيار الذي دخل فيه المغرب، منذ بداية الحراك العربي قبل ست سنوات. وكذا المسار الذي خطه لنفسه بين بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط؛ ممن تحترق في الشمال بلظى الإرهاب، ومشاكل الهجرة واللجوء. وفي الجنوب بالفوضى واللااستقرار والعنف والصراع والحروب.
أولا: تمكن المغرب بهذه الاستراتيجية الذكية من النأي بنفسه عن صراع القوى الكبرى والاصطفاف، في عز الحنين إلى استعادة نظام المحورين القديم بأحلافه الكبرى (محور واشنطن، بروكسيل/ محور موسكو، بكين) التي تبحث عن موطئ قدم لها في أي دول مضطربة؛ كي تحول ذلك الحضور في تلك البلدان إلى أوراق قوة، تستند عليها عند الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع باقي أقوياء العالم. ثانيا: استطاع المغرب إقرار إصلاحات اقتصادية نوعية في تاريخه من قبيل تقليص فاتورة صندوق المقاصة التي تثقل كاهل الدولة، برفع الدعم تدريجيا عن جملة المواد الأساسية في مقدمتها المحروقات التي انتهى بها المطاف إلى اعتماد نظام المقايسة، إصلاح المكتب الوطني للكهرباء،… وغيرها من القرارات الصعبة والضرورية في الآن ذاته، لإنقاذ البلاد من حافة الإفلاس التي كانت سائرة في طريقها. ما أدى إلى إيقاف النزيف المتزايد الذي كانت تعرفه الميزانية العامة، بل مكنت هذه الإجراءات من توفير مبالغ مالية رصد للقيام بتدخل عاجل وأني في القطاع الاجتماعي لإنقاذ بعض الفئات (الأرامل، المطلقات…).
ثالثا: جنب خيار التدرج في الإصلاح البلاد ويلات العنف والاحتراب الداخلي والاقتتال بسبب النعرات القبلية أو العرقية أو المذهبية، وكان ذلك إحدى نقطة قوة هذا المسار خصوصا وأن البلاد تعرف تعددية ذات طبيعة مميزة؛ يمتزج فيها العرقي بالقلبي (صحراويون في الجنوب، أمازيغ في الجنوب والوسط والشرق، ريفيون في الشمال الشرقي…). ممن تسعى قوى إقليمية لاستثارتها؛ في الجنوب كما في الشمال، من حين لآخر دون أن تفلح في ذلك.
رابعا: شكل المغرب بذلك استثناء بين دول شمال القارة الإفريقية التي اعتمدت التغيير السلمي الهادئ، بلا إراقة دم ولا شرخ مجتمعي ولا فوضى عارمة. وواحدا من البلدان العربية التي بقيت مستقرة وصامدة، بمعية بلدان دول مجلس التعاون الخليجي في وجه الأطماع الدولية والمشاريع الإقليمية الرامية إلى التفتت والتقسيم. ما دفع عاهل البلاد للرد على ذلك؛ بالتوجه إلى الرياض يوم 20 نيسان (أبريل) الماضي للإعلان من هناك، وفي أشغال القمة المغربية الخليجية، بأن هذه البلدان رؤساء ومرؤوسين اختاروا منهجا آخر في التغير لا تتحكم في القوى الأجنبية، قوامه ثلاثة مرتكزاته: أحدها الدعم الشعبي والإجماع القائم حوله، والآخر الطابع المحلي الصرف لمضامينه، والثالث مبدأ التدرج في التنفيذ والإنجاز.
خامسا: قدم المغرب بهذا التوجه رسالة إلى القوى الدولية المكابرة التي تنظر إلى شعوب المنطقة العربية على أنها قاصرة، وبحاجة إلى وصي شرعي يرتب لها الأوراق، ويرسم لها الخطط في "السلم" و"الحرب" ويحدد لها برنامج الأولويات. حيث أكد المغاربة أن العرب، شأنهم شأن باقي الأمم، قادرون على إدارة شؤونهم وتدبير أمورهم، ونحت مسارهم الديمقراطي ممزوجا بخصوصية محلية على شاكلة باقي شعوب العالم بعيدا عن أي وصاية أو تدخل أجنبي.
Discussion about this post