إنّ الشعوب أو الجماعات التي تهمّش دور الفكر في حياتها تُهمّش عملياً دور العقل لتُحِلَّ مكانه الغرائز والانفعالات فتصبح الشعوب أدوات فتن ، وتتحوّل الأوطان إلى بؤر صراعات تؤجّحها القوى التي تملك “أفكارا ومشاريعاً” ، تُحدث فرقاً شاسعاً بين الشعارات التي تم طرحها اوائل القرن الماضي خلال فترة الاستقلال من الاستعمار في حق الشعوب بتقرير مصيرها ضمن الاطار الوطني ، وبين الشعارات المطروحة حالياً من بعض الشعوب في بلدانها الوطنية لتتحول الى معنى معاكس ( حق الشعوب بتدمير مصيرها ) في الحاضن المشترك الوطني والجغرافي ..
من تلك التناقضات وغيرها من الأسباب المختلفة التي تدعو للهجرة اضطرار اللاجئين إلى مغادرة وطنهم بسبب الحرب أو الاضطهاد, وترك ممتلكاتهم بسرعة والمغادرة عبر موانئ سفر شرعية او بدون … ، بالطيران جواً أو بالقوارب المطاطية بحراً أو عبر الجبال والاشرطة الشائكة ، في الليالي الباردة أو الشمس الحارقة ، قد يكون هروب من واقع مرير إلى آخر ربما يكون أشد مرارة في بلاد الغربة ، او إلى فرص غير سانحة، لكن الأمل يحدوهم في اقتناصها.
بعد رحلات قوارب الموت التي في معظمها رحلة الى الموت يقودها تجار الحروب ومافيات التهريب ، اصبحنا بحاجة لعلماء نفس واجتماع وحقوقيين وأطباء ومهندسين .. ليقوموا بدراسات على مجتمعاتنا وكيف وصل بها الحال لما نحن عليه… كما هي ظاهرة الانتحار بشقيها الفردي أم الجماعي .
من الواقع المنطقي أن تسارع كل دولة ( يهاجر ابناؤها ) إلى وضع استراتيجية متكاملة تعكس رؤية الدولة وتصورها المستقبلي للحد من الهجرة وتتواكب مع خطة الدولة للتنمية المستدامة 2030، وتستند إلى دعائم راسخة وهي احترام سيادة القانون ومبادئ ومعايير حقوق الإنسان إلى جانب المشاركة المجتمعية والإقليمية والدولية.
استطلاعات الرأي العام المجتمعي وبعض الاحصائيات المأخوذة من السوشيال ميديا في معظم بلدان منطقتنا الاوسطية ، تدلل على “أننا لسنا بخير ” كذلك تُبرز جملة من الظواهر المقلقة التي تتسلل إلى عمق البنية الفكرية والنفسية للمجتمع، وتضرب بقسوة منظومة العلاقات البينية التي تربط الأفراد بمؤسساتهم، وبعضهم بالبعض الآخر .
اقتباس .. ( الاستاذ عريب رنتاوي )
” هذه نتيجة مروعة في بلد يفاخر بالأمن والأمان، ويخرج مسؤولوه صبحاً ومساء بتصريحات تذكّر الأردنيين بـ”النِعم” التي يتمتعون بها، فيما جوارهم القريب والبعيد يكتوي بنيران الحروب والصراعات الداخلية والتدخلات الأجنبية، والفقر والجوع والعوز.. قائمة الراغبين بالهجرة عن أوطانهم يتصدرها الأردن، وهي من بين قوائم ومؤشرات قليلة على أية حال التي يتصدرها.
الشباب (18 – 29 سنة) هم الأكثر ميلاً للهجرة (63 بالمئة)، أكثر من نصفهم (56 بالمئة) من الجامعيين، على الرغم من التركيز غير المسبوق في الخطاب الأردني على أهمية هذه الشريحة والحاجة لتمكينها وإدماجها في الاقتصاد والسياسة.. دوافع غالبيتهم العظمى اقتصادية (93 بالمئة)، برغم وعود الرفاه وبرامج الإصلاح الاقتصادي واستراتيجيات النمو والتحديث..
مواصلة التعليم ليست حافزاً للهجرة سوى لستة بالمئة منهم، أما الحالة الأمنية في البلاد فلا تُقلق أكثر من واحدٍ بالمئة.. إذن، الاقتصاد أولاً، ولكنه ليس أخيراً.
ثمة دول تعاني “جوائح اقتصادية” تطال أساسيات الحياة في البلاد، ولا ينعم سكانها بالكهرباء إلا لسويعات قليلة، والماء النظيف يبدو حلماً بعيد المنال، فيما الفلتان الأمني وفوضى السلاح والأخطار المحدقة بالحياة تكاد تطاول الجميع من دون استثناء، ومع ذلك فإن نسباً أقل من أبنائها وبناتها يفكرون في ترك البلاد في رحلة ذهاب بلا عودة.
“الاقتصاد”، على أهميته، لا يمكن أن يكون سبباً في حفز أكثر من نصف الأردنيين لترك بلادهم، إذ لولا تضافر هذا العامل بعوامل أخرى، لا تقل أهمية أبداً، لما تشكلت الظاهرة وتفاقمت.. هنا، نعود لمقالتنا السابقة، والمتصلة أساساً بفقدان الأردنيين لرأس مالهم الاجتماعي، وهي بالمناسبة نتيجة خرجت بها دراسة لمنتدى الاستراتيجيات الأردني مؤخرا، وحذرت من مخاطرها، ولفتت إلى ضعف اهتمام الحكومات بها باعتبارها شرطاً مسبقاً لإنجاز النمو والتنمية.
حين يفقد ثلثا الأردنيين الثقة بمعظم مؤسسات دولتهم (باستثناء الجيش والمؤسسة الأمنية)، وحين تنهار ثقتهم بأحزابهم وبرلمانهم وصحافتهم وإعلامهم ونخبهم، وحين تُبدي النسبة ذاتها انعدام ثقة بجيرانها وأصدقائها وأقاربها، وحين تحجم نسبة 70 بالمئة عن المشاركة في الانتخابات العامة، وتبدي النسبة ذاته عزوفاً عن متابعة الشأن العام والانخراط فيه، فإن الأردن ليس بخير، والأردنيين ليسوا بخير.
ولا أدري كم “ناقوس خطر” يتعين أن يُقرع، وكم جهة يتعين عليها الإسهام في “قرعه”، حتى تستيقظ الدولة بمؤسساتها المختلفة، وفي مقدمها الحكومة، على الانتباه لما يقلق الناس، ولا يبقيهم في الأرض. “
انتهى الاقتباس
ما ينبغي أن يتأسس عليه فهم التطور والتغييرات في المواقف السياسية هو طبيعة الصراع العالمي وما ينتجه من تحولات كبرى في موازين القوى ، وتأتي زيارة بيلوسي الى تايوان اول الشهر الحالي وتوسيع حلف الناتو وتسريبات وثائق ترمب السرية وزيارة بلينكن لافريقيا في هذا الوقت في نفس السياق ، لإعادة تموضع الدول والتيارات المختلفة على كافة المستويات والابتعاد تدريجياً عن التوجه للإرادة الامريكية التي تعمل جاهدة للإيحاء بأن حربها لا تدور في اوكرانيا فقط عسكرياً بل في محاور وزوايا الاقتصاد العالمي لتصبح حرب استنزاف وموارد للدول بشكل تصاعدي .
وتأتي تصريحات المسؤولين الاتراك وآخرهم وزير الخارجية “مولود جاويش أوغلو ” عن لقاء جمعه مع وزير الخارجية السوري والاجتماعات الامنية المتتابعة لإيجاد مساحة مشتركة ومصالح متقابلة بعيداً عن الايديولوجيا القاتلة وأوهام الانتهازية الزائفة ، لأنها السبيل الوحيد لسياسات أكثر مرونة وقابلية للاستدامة على المستويات المحلية والاقليمية والدولية ، وأعتقد بما لا يدع مجالاً للشك بأن هذه المبادرات تأتي ضمن مقررات استانا والدول الضامنة للحل السياسي وفق القرار 2254 حيث تتشكل قوة هائلة في التضامن والتعاون لأطلاق العنان في بناء مستقبل وسلام واستقرار مستدام . يحافظ فيه الطرفان على مصالح شعوبهما وترتسم التوازنات السياسية الداخلية والخارجية والاقليمية مع ما يرافقها من الانفتاح والتعافي المجتمعي والاقتصادي والثقافي .
من جانب آخر صرحت وزيرة الاسرة والخدمات الاجتماعية التركية ( داريا يانك ) ان تركيا لا تعتني باللاجئين السوريين من باب الرحمة فقط ، وإنما من اجل حماية حدودها ، ولن يبقى احد من السوريين في تركيا بعد عام 2023 ، في نفس الوقت الذي صرح فيه وزير اللاجئين في لبنان بأنه تم التوافق على اعادة اللاجئين السوريين بما يقارب 15 الف سوري من لبنان شهرياً ، بما يشير الى ان ملف اللاجئين وتسييسه قد اصبح من الماضي وان عودة اللاجئين الى بلدهم اضاءة على انتهاء الازمة .
علينا تحديد الواقع السِّياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ والعسكريّ في كامل الجغرافيا السُّوريَّة بشكلٍ علميّ ومنهجيَّة واضحة بمنطق الدَّولة ( الشعب والجغرافيا والحكومة ) ، وليس بمنطق تيار سياسيّ وحزبيّ.
وهذا الأمر غاية في الأهمِّيَّة؛ فغالبيَّة الدُّول الكبرى لا تتَّخذ أيّ قرار قبل الاستماع للشخصيات الفكرية والمراكز البحثيَّة. تُحدِّد الواقع، وتَقْرَأ المُؤشِّرَات، وتُحَلِّل العلاقات، وتقرأ المستقبل، وتُقَدِّم مُخْرَجاتها لمراكز اتِّخاذ القرار . ( العلاقة مع تركيا وفتح الابواب المغلقة وتأثيراتها الايجابية على سورية )
باعتقادي أن ردّ الجميل للمجتمع الذي تعرض للانقسامات بتدخلات الجوار وعدم التقّيد باخلاقيات القانون الدولي ومعاهدات حسن الجوار ، يتطلب إعادة بناء الثقة ومواجهة خطاب الكراهية والتهويل الاعلامي وقبول الاختلاف وحل الخلاف بالحوار السياسي بدلاً من التدخل العسكري
فالفكر المتطرف لا يؤمن بالعلم ولا يبالي بالحكمة ولا يعترف بالحوار .. وكما كتبت الباحثة التونسية ( الفت يوسف ) ” اكبر الالغام المزروعة في اعماق البلاد هي الغام الجهل والعنف والكراهية ، وها نحن نعاني من نتائج انفجارها ” .
مهما شاهد المرء خارج وطنه ومهما عاش وارتحل يبقى وطنه هو الأجمل و الأبقى ، مثل الأم لا ترى أجمل من ابنها ، فالوطن هو الأم وهو الطفل وهو الشاب وهو تجاعيد وجه امرأة عجوز تجلس على عتبة منزلها في حارة متفرعة من حارات تنتظر الغريب والقريب المنفي الذي سيعود …
والى لقاء آخر …
مهندس باسل كويفي
Discussion about this post