بادرني أحد الاصدقاء المثقفين، من المفكرين الذين أعتز بآرائهم وفكرهم الى السؤال التالي أنقله بحرفتيه:
أسعد الله صباحك وسائر أوقاتك بكل خير..
يُقال أن اللغة في الحقل السياسي.. سلاح من لا حُجّة له، إذا لماذا لم يعد بمقدورنا في العصر الحالي حصر هذا السيل من الخطابات التي نخطها ونرسلها الى المتلقين. باعتبارها اللغة المؤطرة للفعل التواصلي بين الأفراد والجماعات.
دعني أنطلق معك من مقولة دقيقة يرى صاحبها أن “الإنسان كائن سياسي” اذ تبين هذه المقولة الارتباط الوثيق بين الإنسان والسياسة. وكما نقول باستمرار، إما أن نُمارس السياسة، أو تُمارس علينا. والتي هي بحسب مشهد السنوات الغابرة في بلادنا كانت تُمارس علينا فكنا نحن المثقفون المهمشون المتلقون لها بلغة لا نفهم منها سوى تنفيذ ما نتلقى.
إنني في كل مرة أقرأ لك لا أختلف في كون كل مقال له رسالة معينة، توجهها كسياسي إلى المُتلقي عبر قناة تواصلية تريد منها إقناع المتلقي بمحتواها ومن خلالها يدفع المتلقي إلى الفعل أو الانخراط (النقد، أو التعقيب).
ولتصدقني ان قلت لك أنني أُسعد كثيرا وأستمتع بما ترسله لي لدرجة أنني أقرأ مقالاتك مراراً وتكراراً لكني في نفس الوقت أجد النقص فيما تُرسل.. النقص الذي لم أجد الى وقتنا هذا كائنا تطرق له بمفهومه الواسع الى المتلقي فعلا (الدولة).!.
ختاما، و من وجهة نظر شخصية و نقد بناء لك أسألك:
الى متى سنظل نلقي بكل هذه الخطابات دون أن نتسلح بآليات وأدوات تساعدنا على فك شفرات الخطاب وفهمه ومعرفة كيفيات التعامل معه، حتى لا نسقط ضحايا سحر اللغة. والتي اراك متمتعا بها لدرجة القوة.؟.
نزولاً واستجابة لنقدك يا صديقي.. الذي اعتبره تصويباً لبوصلة الباحثين والمثقفين الذين ندروا أنفسهم لأوطانهم ابتغاء لرفعة شأنها بين الامم وحرصاً مني على محاولة تبسيط مفهوم الدولة الحديثة ليستطيع المتلقي القراءة والنقد والمشاركة في الرأي بعيداً عن الفلسفة العميقة والايديولوجيات القديمة، وفي محاولة مني لطرح الموضوع للنقاش والحوار للوصول الى أفضل الوسائل والنتائج، فإنني تعمدت تدوين رؤيتي البسيطة لمقترحات قد تكون أداة جيدة في اتمام النقاش والحوار حول هذا الموضوع الهام، ونعرض:
ان الدولة بمعناها الشامل وبهدف بنائها ينبغي ان تكون دولة وطنية تجسد واقعا وطنيا يتساوى فيه افرادها بالحقوق والواجبات من دون التمييز على اساس العرق او الدين او الوضع السياسي او الاقتصادي لأفرادها. وهنا تبرز الحاجة الى توضيح المفاهيم المرتبطة بالموضوع وهي: الدولة، والنظام السياسي والدولة الوطنية؟
للدولة مفاهيم عديدة وكل منها يرتبط بجانب معين، وكما هو في شأن العلوم الانسانية، لا يوجد تعريف متفق عليه لها، بل خضعت لتنظيرات كثيرة حسب تطور الفكر السياسي والممارسات السياسية، فضلا عن تطورات الممارسة السياسية وسلوك وحدات النظام الدولي.
عرف فقهاء القانون الدستوري الدولة بأنها كيان اقليمي يمتلك السيادة داخل حدوده وخارجها ويحتكر قوى وادوات الاكراه (السلاح – القوة الجبرية). الدولة هي حقيقة سياسية وهي مفهوم قانوني لتنظيم العلاقة بين وحدات سياسية غير متكافئة في القوة، وتنظيم تلك العلاقة على اساس من العدالة والانصاف (في الدول ذات النظام المركزي او اللامركزي أو الفيدرالي أو الكونفدرالي)
وكي تتوافر لدى مؤسسات الدولة مبادئ وعناصر العدالة والانصاف، من الواجب أن تتمتع بعنصر السيادة على كامل جغرافيتها ولها استقلاليتها على قراراها السياسي والامني والاقتصادي، ولا يمكن ان يتحقق ذلك من دون وجود نظام سياسي ذو قواعد وعناصر فعّالة في خدمة سيادة الدولة تعمل على استقلال قراره.
والسيادة هنا في بُعدين، الاول قانوني اي المؤسسات والهيئات التي يخولها القانون سلطة اصدار القرارات النهائية الحاسمة، اي بمعنى توافر عنصر المشروعية. اما الثاني فهو سياسي ويرتبط بشرعية السلطة وحصولها على موافقة الشعب عبر التصويت والانتخابات وان تكون السلطة ممثلة للشعب.
كما ان السيادة لها بعدين آخرين: هما داخلي ويقصد بها السيادة الداخلية وهي حرية اختيار النظام السياسي الملائم للأوضاع الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية، وفي السيطرة على مواردها داخل اقليمها البري والجوي والبحري.
اما السيادة الخارجية، فهي تشير الى حق الدولة في ادارة شؤونها الخارجية بحرية ومن دون تدخل في شؤونها الداخلية او تأثير عليها من قبل دولة اخرى او جهة خارجية، اي عدم خضوعها لسلطة وتأثير دولة اخرى.
فيما يرتبط بالنظام السياسي، فيُعرف ببساطة بأنه مجموعة من العناصر (الاحزاب والقوى السياسية) والقواعد (اطر تشريعية وسياسية ومؤسسات سياسية – امنية واقتصادية وثقافية واجتماعية الخ) المتناسقة والمترابطة فيما بينها تضع وتبين نظام الحكم وشكله (رئاسي – برلماني – مختلط..) ووسائل ممارسة السلطة واهدافها (بموجب دستور متوافق عليه وبمباركة الشعب صاحب القرار) عبر القوانين المستمدة من الدستور.
اما الدولة الوطنية، فهي إضافة لما سبق الحيادية لكل المواطنين بمختلف انتماءاتهم الدينية والعرقية والاثنية.
تقوم العلاقة بين مكونات الدولة الوطنية الحديثة على أساس عقد مواطنة يرتب حقوقا للفرد في قيّم المساواة وتكافؤ الفرص والعدالة والامن والحريات ويرتب ايضا على الفرد واجبات تجاه الدولة وتجاه غيره من الافراد، ويتوسع هذا العقد ليصبح عقد اجتماعي بين مكونات المجتمع تنظم حقوقه وواجباته …
تتماهى تأثيرات ازمات النظام السياسي على بناء الدولة ومؤسساتها، فالأزمات السياسية وعدم الاستقرار السياسي والامني ، يترتب عليها ازمات اقتصادية واجتماعية وثقافية .. انعكاساتها السلبية مباشرة على المجتمع في ازمات مستدامة منها ازمة الوطنية (الولاء الوطني) مقابل تصاعد الولاءات الفرعية المذهبية الاثنية، وتغييب الهوية الوطنية.
هنا لا بد من الاشارة الى أن انفاذ وسيادة القانون وضمان استقرار الاوضاع الامنية يتأثر بشكل مباشر بالأزمات المختلفة، وبالتالي يقود الى بروز الخلل الهيكلي في بناء الدولة ومؤسساتها، نظراً لتعرض عملية التنشئة الاجتماعية والبناء الثقافي والتوازن الاقتصادي والبرامج التنموية الى التشويه وعدم انتظام برامجها وبالتالي تلاشي أهدافها.
كل هذه الازمات والتداعيات تجعل من النظام السياسي منظومة هيكلية وليست مؤسسات مؤثرة
في البناء السياسي وبالتالي بناء الدولة، في ظل غياب الثقافة السياسية المشجعة، وغلبة قيّم المجتمع الاهلي وتراجع قيَم المجتمع المدني وسيّادة المجتمع القبلي، التي تشّكل عوامل دافعة باتجاه تراجع بناء الدولة.
باعتقادي وبالعودة الى دراسات وابحاث متعددة، لا بدّ من وضع توصيات باتجاه تقويم بناء الدولة ومؤسسات النظام السياسي، والبنية الاجتماعية لتشكيل الارضية المناسبة في الدولة الحديثة،
أولها التأكيد على أهمية الاحزاب السياسية في عناصر النظام السياسي، على ان يتم تقويم الجانب التنظيمي لها وفق اطر فكرية تنظيمية سياسية، وسلوك سياسي فعال وبنَاء، فالإصلاح السياسي وفق رؤى وطنية وليست رؤى حزبية مكوناتية ضيقة، وتعديل قانون الاحزاب بما يخدم هدف ان تكون الاحزاب عناصر ايجابية تخدم عملية بناء النظام السياسي وتعزز استقلالية قرارات مؤسساته السياسية والامنية والقضائية، وانفاذ القانون عبر فصل السلطات، باتت ضرورة ملحّة لبناء الدولة الحديثة.
ثانيها؛ البناء الاقتصادي – الاجتماعي ويعتبر من الركائز الهامة في بناء الدولة الوطنية الحديثة، وهنا تبرز الحاجة الى تدعيم عملية التنشئة السياسية والاجتماعية على اسس حديثة لتحقيق التعافي الاقتصادي والتوازن الاجتماعي لتعزيز الاستقرار والسلام المستدام.
ثالثها؛ دعم الدور التنموي للدولة وفق سياسات عامة اقتصادية تنموية بيئية، تسهم في ترميم الثقة بالدولة وتعزز الروابط بين الافراد ومؤسسات الدولة، والانفتاح على الدول الاخرى بالمصالح المتبادلة، وفق برامج علمية مدروسة متوازنة. وإيلاء أولوية للتعليم والصحة والتنمية والمناخ في كافة محافظات البلد الواحد وبما يؤمن استقلالية للوحدات المحلية المنتخبة فعلياً في مشاريعها ضمن اللامركزية الادارية الموسعة.
رابعها؛ التحرر من الماضي وإعادة بناء الثقة، بالتعددية السياسية والتشاركية والديموقراطية التوافقية وتعزيز منظومة حقوق الانسان، مع توسيع شبكات الحوار والمناقشات والانشطة المدنية وتبادل الخبرات لخلق وعي جديد وثقافة جديدة قائمة على عدم التمييز والمساواة بين الافراد.
إن الانتقال إلى شرعية الدولة الحديثة ليس ممكناً دون توسط عدد من المفاهيم التي تجعل من مبدأ السيادة متماسكاً منطقياً وفعالاً في التاريخ. وفي مقدمة هذه المفاهيم العقد الاجتماعي، مبادئ حكم الشعب والمواطنة، تفكيك وفصل السلطات، والإرادة الجمعية التي تفصح عن فحواها بالتفويض، أي بالإنابة التمثيلية والانتخاب وفق قانون شفاف.
ففي الحداثة تصبح السياسة شأناً إنسانياً صرفاً بعد أن كانت عبر التاريخ تعلو مواطنيها وتتجاوزهم. وحين نقول إن مفهوم السيادة هو مبدأ الحداثة السياسية فذلك لأنه تحوّل في السياسة الحديثة إلى سلاح حقوقي استراتيجي أي تعبوي وتحريضي، في بناء الدولة الحديثة.
لم ينموا مفهوم السيادة الحديث ويتقدم في قرارات حكومية بل نتيجة صراعات فكرية-سياسية وفلسفية اجتاحت الوعي الجمعي في وسط وغربي أوروبا. وليس مفارقة أن يكون وضع حدٍ للحروب والنزاعات المسلحة من أهم عناصر إعادة تعريف الدولة ومفهوم سيادتها.
وبالتالي فإن مبدأ احترام الوحدة الترابية للدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية هو الوجه الدولي لمبدأ السيادة، ولكل النزاعات الحدودية (والعنف) التي تتصل به.
اقتباس.. المركز الاسكندنافي
“ما من شك بأن أشكال النمو غير المتكافئة وسيطرة دول المركز في المنظومة العالمية World- System على دول المحيط في منظومة اقتصادية غير متكافئة، يشكل واحدا من أهم أشكال المقاومة للشعوب المستضعفة، التي تعتبر استقلال قرارها السياسي والاقتصادي جزءا من حقها في ممارسة سيادتها في إطار الدولة. خاصة وأن تجربة الشعوب مع القوى الكبرى في موضوعة “التدخل”، إنسانيا كان أو للحماية، كانت قائمة بشكل أساسي على المصالح القومية العليا للدول المتدخلة أكثر منه على قواعد قانون دولي أو قواعد تأخذ مصالح الشعوب بعين الإعتبار. من هنا، وحتى اليوم، نجد ميثاق الأمم المتحدة يحظر تدخل أية دولة في الشؤون الداخلية لدولة أخرى، إذ أن كل دولة حرة في اختيار وتطوير نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، من دون تدخل خارجي، غير أن سيادة الدولة، وفق القانون الدولي والتزاماته أيضا، أصبح يقّيد الدول، على الأقل من ناحية الالتزام والتصديق الطوعي على مواثيق حقوقية، تقوم على احترام الشرعة الدولية لحقوق الإنسان ومنع اضطهاد الجماعات الفرعية في حدود سيادتها، وتجريم ارتكاب جرائم الحرب، وجرائم إبادة الجنس البشري والجرائم ضد الإنسانية وجريمة العدوان؛ بمعنى آخر، لم تعد الدولة مطلقة التصرف في ميدان انتهاكات حقوق مواطنيها وفي العلاقات الدولية والعدالة الدولية، إذ هي تخضع للقانون الدولي المفروض على الدول بناءً على اعتبارات تعلو إرادتها، والذي يورد قيوداً على تصرفات الدول، ويحكم علاقاتها مع الدول الأخرى، ومع الهيئات الدولية.
إن الإقرار بوجود حقوق عالمية مشتركة لكل البشر، يعني أن مجالاً من المجالات الأساسية للاختصاص الداخلي للدولة قد أصبح محل تدخل للقانون الدولي بالتنظيم والحماية، وهو ما لا تقبله أي دولة بسهولة، قوية كانت أو ضعيفة، ولا سيما أن السيادة ومبدأ عدم التدخل يعتبران حتى اليوم، من الدعائم الأساسية للقانون الدولي، إلا أن ولادة المنظومة الدولية لحماية حقوق الإنسان ووجود اتفاقيات أساسية مشتركة بين الدول (كاتفاقيات جنيف والقانون الدولي الإنساني بشكل عام) وولادة المحكمة الجنائية الدولية بعد صيرورة محكمة العدل الدولية بعد قرابة قرن على انطلاقة فكرتها وهيكلتها مؤسسة لفض النزاعات بين الدول، جعلت من هذه الحقوق مدخلاً ومسألة دولية لا تقتصر على الاختصاص الداخلي للدول فقط، بل تتعداها للمحيط الدولي على أساس المصلحة الدولية الشاملة.. بحيث أصبح مقبولا، إن لم نقل ضروريا، وجود دور فاعل للأمم المتحدة ليس فقط في رقابة سلوك الدول الأعضاء في حالة تهديد السلم والأمن الدوليين، وإنما في وضع حد لحالات النزاع المسلح الداخلية في هذه الدولة أو تلك. الأمر الذي يوصلنا لفكرة التفاعل بين المؤسسة الأممية وشعوب البلدان التي تمزقها النزاعات المسلحة، من أجل بناء دولتها، بعد مرحلة النزاع والحروب الداخلية والخارجية.
أضحت الهوية اليوم، في تداخل وجودي وحيوي، مع مبادئ الكرامة والعدالة واحترام حقوق الأشخاص. من هنا، تستوجب صياغة الهوية الوطنية-المواطنية اليوم، كفعل إرادي جماعي، إعادة بناء الدولة على أساس المواطنة الجامعة، لكل من يعيش في حدود الدولة. الدولة الحيادية التي تقف على مسافة واحدة من جميع الأديان والمكونات والقوميات والعقائد وتقوم على أساس العيش المشترك، كهوية مشتركة أساس لكل مواطنيها، ليس في مواجهة مع، أو إلغاء للهويات الفرعية. الأمر الذي يتطلب مفهوما للسيادة يعتبر الشرعة الدولية لحقوق الإنسان جزءا لا يتجزأ من أي تشريع. من هنا ضرورة التعامل مع مفهومي السيادة القانونية الدولية والسيادة ما بين الاستقلالية باعتبارهما طرفا في صياغة العقد الاجتماعي الجديد. أي بناء ما يطلق عليه يوجين ها برماس، “الوطنية الدستورية”. وذلك على أساس الرابطة الأخلاقية/الحقوقية العالمية، الديمقراطية وحكم القانون، والسلطة التوحيدية للدستور في مجتمع من المواطنين الأحرار.”
انتهى الاقتباس …
من دون إنتاج حقل سياسي جديد، الذي سيعيد بالضرورة بناء وإنتاج البنى التحتية المتنوعة، أي تغيير السياسة والعلاقات السياسية والوظيفة السياسية، تتجاوز أخطاء وممارسات سابقة، لا يمكن بناء دولة وطنية حديثة. لأن الاخلاق السياسية وعلومها، لا تستطيع اعتماد قراءات وايديولوجيات ثابتة بالرغم من ضخامة شخوصها ونكتفي بمناقشة افكارها وتناغمها او تعارضها، بما يعزز المعرفة للحوار والبناء.
اقتباس ” عريب الرنتاوي ”
المتابع للجدل بين الحكومة والمعارضة في إسرائيل سيجد أن أكثر العبارات شيوعاً في سجالاتهما هي “انهيار الدولة”، “حرب أهلية”، “تحريض على العنف والقتل”، “خراب الهيكل”.
ويعكس ذلك بعبارة “من آيات “تمشرقها” انتعاش هوياتها الفرعية، احتدام الصراع فيما بينها، الانقسام الديني العلماني وزيادة حدة الاستقطاب بين الكيانات والمكونات الإسرائيلية المتنافسة، إشكالية العلاقة بين الدين والدولة، تآكل أعمدة “الحكم الرشيد” واختلال التوازن بين السلطات، لصالح السلطة التنفيذية دائماً، هنا نفتح قوسين لنرصد الهجمة اليمينية على “المحكمة العليا” وتسلل الإيديولوجيات المتطرفة إلى المؤسسة العسكرية – الأمنية..
من آيات “تمشرقها” كذلك سطوة السلطة السياسية على الإعلام، إرهاصات تشكل ميليشيات عقائدية سائبة وتراجع مكانة “سيادة القانون”، تفشي الدعوات لتطبيق “الشريعة اليهودية”، تسييس الدين وتديين السياسة (صهينة الدين وتديين الصهيونية)، فساد الطبقة السياسية واضطرارها لتفصيل قوانين وتشريعات على مقاس “نمر أحذية” أركانها، كما حصل عند تمرير قانون بن غفير وقانون سموتريتش وقانون درعي، في أول اجتماعات للكنيست 25، في تجسيد سافر لفكرة “الحكم بالقانون” عوضاً عن “حكم القانون”. ”
انتهى الاقتباس..
السمة الرئيسية للدولة الحديثة – ونأمل أن تكون الأكثر ديمومة، وهي تقديم نفسها على أنها المصدر الوحيد لجميع السلطات العامة. المادة 3 من إعلان حقوق الإنسان
الدولة الحديثة، التي أكدت نفسها على أنها القوة السيادية الوحيدة، وبالتالي، عكست بأمانة البنية الاجتماعية الجديدة، ومع ذلك، فإن تقسيم المجتمع إلى طبقات هو إحدى مصادر التناقضات والصراعات، ويتطلب الحد منها تنمية الشعور بالتضامن بين الأفراد والشعور بالاحترام المتبادل بين مجموعات مختلفة في المجتمع وبالتالي المساهمة في تكامل وترابط أكثر تأثيراً.
لقد زعمت الدساتير الحديثة أنها تكرس في النص جميع المبادئ الأساسية للحق العام، في البناء وليس التدمير، إنه الواجب الذي يستطيع مجتمع اليوم أن يقدمه لنفسه، فيما يتعلق بالدولة ونظامها السياسي. عندما يتم تشييدها، بما لا تتناقض الصروح الجديدة مع الهندسة المعمارية الصلبة والشديدة للدولة الحديثة، ولكنها تستند إلى نفس الأسس وتشكل جزءًا لا يتجزأ منها.
إن مجموعة كاملة من الأسباب المختلفة والمتنوعة قد تؤدي الى تحسين الظروف الاقتصادية – الاجتماعية، عبر توسيع فضاء الحرية الاعلامية، ونشر الرأي العام وروح النقد والاستقصاء، توسيع الثقافة، والصحافة اليومية، وزيادة سهولة الاجتماع والارتباط، ووسائل الاتصال السريعة.. .
علينا إعادة التأكيد الضرورية على مبدأ الدولة الحديثة لتأكيد الإرادة التي يمكن تصنيفها كإرادة عامة، التي من واجبها تحديد الادارات بشكل علمي ومنطقي وفق الكفاءات والقدرات، بعيداً عن التقييمات الاخرى الضيقة التي من شأنها زيادة الاعداد والفساد وسوء الادارة وترهلها.
تصبح الدولة أكثر قوة ونشاطًا، اذا كانت التجسيد الحقيقي لمجتمع واسع ومتكامل مترابط بعقد اجتماعي متوافق عليه ، وتكتسب المزيد من التماسك والاتساق بمرور الوقت ، عندما تصيغ دستور عصري انعكاساً للعقد الاجتماعي ولكن ذلك لا يعني امكانية تطور الدولة الى ما لا نهاية ، لظهور أشكال جديدة وتحول الأشكال القديمة ، إلا أنه لا يمكن معرفة المستقبل لنا، وعلينا أن نقتصر على التفكير بعين اليقظة والثقة في البذور المزروعة في مواجهة تراكم العناصر المعاكسة التي يبدو أنها مأخوذة من جبهات المصالح الضيقة .
وهنا لا بد من الاشارة الى أنه إذا كانَ الوَعْيُ هو الأساسَ الفلسفي للفِعْل، فإنَّ الثقافةَ هي القاعدةُ الأساسيةُ للمُجتمع، والهُوِيَّةُ المُتماسكةُ للإنسان الواعي الذي يُمارس وُجُودَه المعنوي والمادي لإكمالِ الثغرات في شخصيته المركزية، وتحقيقِ الكمال في سُلطته الاعتبارية، بِوَصْفِهَا طريقًا لِخَلاصِ المعنى الحياتي مِن ضَغط اللحظة الآنِيَّة، وتخليصِ الحضارة المادية من النزعة الاستهلاكية، وانعتاقِ بُنية التفكير مِن المصلحة الضَّيقة، وتحريرِ رمزية اللغة مِن التفسير الأُحَادي للتاريخ.
سيطرةُ العقلِ الجَمْعي على العلاقات الاجتماعية لا تُؤَدِّي بالضَّرورة إلى صناعة مُجتمع عقلاني، فلا بُدَّ مِن رَبْطِ إفرازاتِ الزمانِ والمكانِ بتراكيب الوَعْي الثقافي، ودَمْجِ وظائف الأنظمة المعرفية مع تأثيرات الفِعْل الاجتماعي.. فالعقلُ الجَمْعي لا يَستطيع أن يَصنع مُجتمعًا عقلانيًّا مِن الفَرَاغ، ولا يَقْدِر أن يَبني منظومةً فكريةً حُرَّةً مِن العَدَم، وبالتالي يجب التنقيبُ عن الجُذور العميقة للعلاقات الاجتماعية، وبناءُ الهُوية الوجودية للإنسان والمُجتمع عليها.
وكما أنَّ الطبيعة لا تَقْبَل بوجود جُذور في الهَوَاء، كذلك المُجتمع العقلاني لا يَقْبَل بوجود عَقْل جَمْعي بلا سُلطةٍ معرفية. والعقلُ الجَمْعي المُسلَّح بالسُّلطة المعرفية هو القادر على بناء الإنسان والمُجتمع معًا. والوَعْيُ الثقافي المَدعوم بالفِعل الاجتماعي هو القادر على صناعة التاريخ والحضارة معًا.
بعيداً عن الرؤى والحسابات السياسية والنظرة إلى مصطلح المركزية واللامركزية، فإن البُعد التنموي للمصطلح، ومدى قدرته على النهوض بالأعباء التنموية الوطنية للمناطق ، يمثّل جوهر النقاش الحقيقي الملتزم بالمصلحة الوطنية، والذي يفترَض أن يَخلص إلى جملة استنتاجات من شأنها تطوير تجربة الإدارة المحلّية وتوسيع حالة التشاركية للاتّفاق على رؤية مستقبلية للمجتمعات المحلّية ومساعدتها على جسْر الهوّة التنموية القائمة بين الريف والمدينة، وبين الأقاليم نفسها، والأهمّ الدخول في مرحلة من إعادة بناء التنمية بشكل متوازن ، مع الأخذ بعين الاعتبار مجموعة جديدة من التحدّيات غير التقليدية، بدءاً من المتغيّرات الديموغرافية التي من شأنها تعميق حجم المشكلة السكّانية ، مروراً بالتراجع الكبير الذي شهدته مؤشّرات رأس المال الاجتماعي ، وصولاً إلى تبخّر مؤشرات تنموية احتاج تحقيقها إلى عقود طويلة من الزمن.
بالنسبة للمجتمعات العربية، وفيما يتعلق بالمتطلبات الثقافية اللازمة للتحول الديمقراطي، يرى كتاب السلطوية في الشرق الأوسط (المؤلفة إريكا فرانتز) ” النظم الحاكمة والمقاومة ان مجموعة من المجادلات الثقافية اثبتت ان العقلية القبائلية والقائمة على النظام الاجتماعي الابوي الذي يتميز بسلطة الاب المطلقة على العشيرة تشكل عقبة تعرقل تطور القيم التعددية ونشر الديمقراطية.
ويبرهن أن الانفصامات الاثنية او العرقية تبرز كعامل مساهم في تكريس مرونة السلطوية في المنطقة، ويركز هذا التفسير على الطبيعة الخصوصية لاقتصادات الشرق الأوسط. ان دولا كثيرة بالمنطقة، وبخاصة تلك الدول الواقعة ضمن شبه الجزيرة العربية والمجاورة لها، تستمد دخلا فخما من الصادرات الهيدروكربونية، وترتبط جيرانها من الدول الأكثر فقرا بالاقتصاد النفطي عبر الاعتماد على هجرة العمال وما يترتب عليها من حوالات مالية، او المساعدات المباشرة من دول الخليج العربية، او المكاسب المتحققة عن طريق تجارة الترانزيت.
وتدرج نظرية “الدولة الريعية” ان الحصول على مصدر غير انتاجي للدخل، يجعل من نظم الحكم في الشرق الأوسط نظما اقل اعتمادا على استخراج الثروة من شعوبهم من اجل تمويل الدولة، وأكبر قدرة على كسب التأييد الشعبي عبر تقديمهم للإمدادات السخية للخدمات الاجتماعية، وتوفير الوظائف الحكومية.
وفي الختام، تذكر المؤلفة أن الأنظمة السلطوية لن تختفي قريباً، وأن أكثر من 40% من سكان العالم يعيشون في ظل أنظمة سلطوية، بما يعني أن ثلث دول العالم تحكمها أنظمة سلطوية، وهو ما يعدّ انخفاضاً في عددها، مقارنة بعددها خلال حقبة الحرب الباردة، وهناك بعض المؤشّرات التي تدل على استمرار انخفاض عددها” .
باعتقادي، في حسابات الأمن القومي للدول الحديثة بالإضافة الى فصل الدين عن الدولة، يجب ان تتمتع بمرونة التحول في سياساتها الخارجية بما يتناسب مع سياساتها الداخلية وفي البناء الاجتماعي والتوازن الاقتصادي الذي يشكل انعكاساً حقيقياً للتغييرات المحلية والاقليمية والدولية، بما يساهم في التعافي المبكر واستدامة الاستقرار والسلام على المستوى المحلي وانعكاسه على الامن والسلم العالمي.
وختاماً نتمنى ألا نصل في عالمنا الى مقولة الاديب المفكر فيودور دوستويفسكي..
“سيصل العالم إلى زمنٍ يُمنع فيه الأذكياء من التفكير حتى لا يسيئوا إلى الحمقى”.
والى لقاء آخر..
المهندس باسل كويفي
Discussion about this post