واقع منطقتنا الأوسطية اليوم مختلف تماماً عن ما كانت عليه الأمور منذ مراحل الاستقلال الوطني وحتى الآن ،فنحن اليوم نمر في أزمات متتالية منها تراكمية أو طبيعية أو صنع الانسان .
شتّان ما بين استعادة صحة التمثيل في بلدان المنطقة وفق مفاهيم المدنية وحقوق المواطنة والديموقراطية وسيادة القانون ، وبين إعادة التوازن إلى الحياة السياسيّة ، لتسريع سياسات البناء الاقتصادي – الاجتماعي بعد تصحيحها للتعافي المبكر والنمو والنهوض بما يسمح تعزيز الاستقرار والتنمية والسلام المستدام .
لا شك ان تلك الخطوات بحاجة “أولاً” الى تطوير الاداء الاداري في المؤسسات والمنظمات والادارات الخاصة منها والحكومية ، وهذا يتطلب تجميد قوى الممانعة أو تحييّدها لغرض ضمان النجاح ، حيث لا يكفي ان تكون هنالك معايير للقياس والتقيّيم للإدارة والانتاج و جودة العمل من أجل تحسين الاداء السلوكي للموظفين أو العاملين ، بل يجب ان يعمل القائد أو المدير على التغلب على قوى الجذب أو قوى ممانعة الاصلاح التي تعمل على رفض أي تغييّر جديد في العمل وقيّمه ( عقدة الاستعلاء ) ، التي تمارس أشد الضغوط والرُهاب لحمل المسؤول المباشر في مؤسسته للابتعاد عن اهدافه ورؤيته ، والإبقاء على الأوضاع القائمة في دائرة خدمة المصالح ( الرجعية الإدارية ) ، والدفاع عن الادارات الصدئة المتتالية لتثبت أوضاعهم ومكاسبهم ، ويليها رفضهم النقد البنّاء بممارسة ردود فعل انفعالية عنيفة قد تصل الى التخوين بسبب انفصامهم عن الواقع المجتمعي .
هذا السلوك اللامتوازن يؤدي بالنتيجة الى فقدان القدرات والكفاءات الجيدة مع مرور الوقت وهو ما يعرف بأدبيات القيادة (القفز من السفينة) ، كونها على علم ودرايّة بتوقيت غرق هذه السفينة بسبب انشغال قبطانها ورفض الآراء والانتقادات لإنقاذها .
أما الصورة و الوجه الاخر لقوى الجذب أو الممانعة فهي تتمثل بكراهية الاجراءات التصحيحية، لأنها تشكل في حقيقتها نقد وتقويم لسلوك العاملين وتمثل بشكل مباشر أو غير مباشر نوع من الإدانة، وبالتالي فان الاجراءات التطويرية تضع الادارة الوسطى والموظفين التنفيذيين في موضع الشك والخوف، حيث يتولد لديهم شعور بعدم رضا القيادات العليا عن مستوى ادائهم المعتاد ولذلك تكون ردود أفعالهم أو استجابتهم للتطوير سلبية ، وهذا بالنتيجة يؤدي إلى تدني أنماط علاقات التعاون بين الموظفين فيما بينهم ومع المواطنين لاختلاف آرائهم وانتماءاتهم الإدارية وكفاءتهم في الأداء ورُهاب الفاسدين .
كما أنها بحاجة “ثانياً ” الى وجود اعلام مستقل ومفتوح للجميع (دون تخصيص شخصيات لم تؤدي دورها المحايد ) ، ضمن مساحة واسعة من الحريات و حرية التعبير تعزز مساحات العمل في الشأن العام اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً ، وتعزز عمل مجتمع مدني فعّال ومؤثر ، بعيداً عن الرهاب والترهيب والولاءات ؛ بما يكفل خروجنا من المربع الاول الستاتيكي ( كوما – غيبوبة ) الذي جوهره ثماراً لا تنفع ولا تُغني من جوع وانعكاساته عجز حكومي وترهل مؤسساتي غير قادر على تقديم حلول للأزمات المختلفة والتعامل مع ذيولها وتداعياتها..
فللاعلام وظيفة أساسية وهي كشف الحقائق وتعرية الفساد طالما الانفاق عليه من جيوب المواطنين ، أما الاعلام الخاص فوظيفته اضافة عدم التسييس ، وبالتالي فلا يجوز للسلطة الرابعة ضمن الضوابط الاجتماعية تضليل الرأي العام وتسطيح العقول وعدم التجديد والتغيير بحجج مختلفة ، وهذا ما يدفع و يُلحق أضراراً بليغة بالمجتمع والدولة على المدى القصير والمتوسط والبعيد .
من زاوية اخرى ، نلحظ ” ثالثاً” أن الاستبداد هو نقيض لمفردة الاستشارة ( الرأي والرأي الاخر ) ، والمستبد هو الذي يجعل من رأيه وحيداً ، وعليه تُشكل الاستشارة منهج حياة تشمل السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع ، تسمح بالمشاركة لأكبر عدد ممكن في صناعة الرأي والقرار الصائب ، وتضمن حرية الرأي الحر واختلافه وحمايته ، باعتبار أن المسؤولية الجماعية التشاركية تكون أقرب للصوابية ، وعلى العكس من ذلك حين تغيب هذه القيم تتنّمر السلطات بادائها وادواتها ، وينعكس ذلك سلباً على الدولة والشعب ، بينما في المقابل الحوار والنقاش والتشاركية يقود الدولة والمجتمع نحو التقدم ومواكبة التطور والنمو العالمي الهائل في كل المجالات ، ويدفع بمسار صناعة المجتمع المستقر المتكافئ في الفرص والقادر على تعزيز التعايش ، وانتخاب حكومات رشيدة كفؤوة ، بما يساهم في إعادة التوازن الى المجتمعات ؛ و”رابعاً ” قانون حديث يحقق المساواة بين الجميع دون تفريق ، يتوائم ويستمد نصوصه من دستور عصري يحدد شكل الحكم والصلاحيات الممنوحة للسلطات والفصل بينها ، وقانون انتخابي شفاف ؛وتلك احدى ميّزات الدول المتحررة من الاستبداد ومنهجه ،
وحسب اعتقادي وكثير من المحللين والمراقبين ، فإن الزلزال الذي اهتزت له المنطقة برمّتها تحوّل الى عامل تغيّير أساسي في السياسة ، سيزلزل جمود العلاقات الاقليمية و الدولية ،وارتدادته ستتأثر بها سياسات الدول وقد يكون حجر الاساس لبناء منظومة انسانية – اخلاقية – حقوقية حديثة بعيداً عن التميّيز والتسيّيس للعلاقات الانسانية ، فالجدران الصمّاء تصدعت وفُتحت الابواب لاحتمالات عديدة ، حيث أن زلزال تركيا – سورية لم يضرب البشر والحجر والشجر فحسب ، بل سيضرب النظم السياسية في المنطقة والعالم وبدرجة لا تقل عن 7.8 بمقياس ريختر .
لقد ساهمت العقوبات الاقتصادية الغربية والأميركية المستحدثة ضد دمشق وحلفائها بذريعة ممارسة ضغوط سياسية واقتصادية على “النظام” لإجباره على الدخول في “عملية سياسية” لحل الأزمة ، في النتيجة الى إفقار السوريين وزيادة معاناتهم وآلامهم ومنعهم من الوصول إلى أبسط احتياجات العيش ، متغلبة ومتفوقة على تداعيات الحرب والفساد وسوء التخطيط والادارة البيروقراطية المركزية والسياسات الاقتصادية – الاجتماعية المترهلة وجائحة كورونا والكوارث الطبيعية …
وإمعاناً للهستريا في ظل الفاجعة الكبيرة التي أصابت سورية بسبب الزلزال المدمر ، تتعرض سورية الى اعتداءات وقصف اسرائيلي همجي ، ما يشكل تصعيداً خطيراً و “انتهاكا صارخا” للقانون الدولي الانساني ، و”جريمة ضد الانسانية” حسب اتفاقيات جنيف يُحاسب عليها القانون الدولي ، ويستدعي رداً دولياً مباشراً ، يهز ويزلزل الصمت الدولي على تلك الاعتداءات والقصف ، الذي من شأنه تهديد الأمن والسلام والاستقرار الاقليمي والدولي .
إن صدمة الزلزال وما بعده ؛ يجب أن تكون حاضرة في الذاكرة البشرية بقوة، وسيناريوهات كل الاحتمالات قائمة ، وتنبؤات القادم مجهولة ، لذلك على الجميع العودة للتفكير في مستقبل الحياة ، وتكريس حقوق البشر الانسانية – الاخلاقية بعيداً عن التمييّز ، عبر تضافر الجهود وإضفاء المحبة والوئام في سلوكنا على كوكبنا للوصول الى حياة كريمة تنعم بالاستقرار والامن والسلام ..
من رحم المعاناة يُولد الأمل، ومن قلب المأساة تُولد الإرادة، ويُصنع الحب. ومن نبض تحت الركام علّمنا الطفل الذي خرج مبتسمًا، يُشاكس رجال الإنقاذ بعد خمسة أيام تحت ركام الزلزال ؛ أن الأمل يُولد مع الألـم !
والى لقاء آخر …
مهندس باسل كويفي
Discussion about this post