د.رفعت شميس
رغم الأصوات الغاضبة التي تعبر عن استيائها مما حدث للتاريخ السوري من تعتيم متعمد يستمر التشويه للبنية الاجتماعية بتركيبة سوسيولوجية من شأنها – ونحن في عصر التوثيق – أن تضيّع المعالم الحقيقية للتاريخ السوري العريق ولا سيما تاريخ دمشق التي تعد أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ ناهيك عن تاريخ حلب العريق ولا سيما في عهد الدولة الحمدانية التي لا نجد في المناهج الدراسية سوى لمحات سريعة حين يتم ذكر الشاعر أحمد بن الحسين المتنبي أو الشاعر ابي فراس الحمداني فيعرج الذاكر على سيف الدولة الحمداني بإشارة سريعة حول قتاله ضد غزوات الروم .
وعن استمرارية تشويه البنية الاجتماعية الدمشقية تطالعنا الدراما السورية ببعض الأعمال الدرامية التي تركز على البيئة الشامية وكأن سورية اختصرت في دمشق وكأن اللهجة الشامية هي اللهجة السورية الوحيدة والمعتمدة في سورية – صحيح هناك بعض الأعمال البدوية من البيئة الريفية ولكن المزري في تلك الأعمال أن الغدر والخيانة واللؤم وكل المستقبحات الدونية تجدها ماثلة في تلك الأعمال . وهناك أعمال قليلة جدا باللهجة الحلبية . إلا أنها لم ترق إلى المستوى المنشود في ازاحة الستار عن تاريخ عريق لمدينة عريقة .
أما التشويه الذي أقصده في الدراما السورية التي تناولت البنية الاجتماعية الدمشقية ولا سيما في عصر الاحتلال العثماني والاستعمار الفرنسي حيث نجد أعمالا فيها من تشويه الحقائق الشيء الكثير .
فعدا عن تشويه صورة المرأة الشامية وعرضها على أنها مجرد آلة جنس وتفريخ هناك التشويه المتعمد لمجريات الأحداث ولاسيما في فترة النضال ضد المستعمر الفرنسي .
فقد عمد كتاب الدراما – بعضهم -في جل أعمالهم على تصوير ” القبضاي ” بنموذجين . القبضاي الشرير والقبضاي المحمود الذي يستعمل عضلاته في الدفاع عن الحرمات . فنجد دائما هناك ” حارة ” وهناك زعيم .. الزعيم محترم ومهاب وكل أهالي الحارة يطيعونه ويخافون بطشه إذا غضب .
ولكن هل حقا كان للحارات زعامات ؟
في الواقع ليس هناك أي ذكر للزعيم في أرض الواقع . ولكن نموذج الزعيم لم يأت من العدم .. كيف ؟
في التجمعات القبلية هناك شيخ العشيرة . أو زعيم القبيلة . أما في المدينة فكان الناس يخضعون بشكل مباشر لسلطة ” البيك ” وهو شخصية اقطاعية يملك الأرض والمال . ولكن الخضوع ليس مطلقا ، فالذين يعملون في مزارعه وتحت أمرته له عليهم الطاعة ،(1) ومثله الآغا (2) والباشا (3) – والأفندي (4)وهناك المختار المفوض من رئيس الدرك . وهناك صاحب الشرطة والقاضي والوالي . بل هناك نساء زعيمات كأن تكون ابنة زعيم أو ترث الزعامة إلا الوازع الديني طمس أسماء السيدات . وتم اغفال أغلبهن في المطبوعات حين صار الكتاب يطبع بعد أن كان ينسخ بخط اليد .ومن ألقاب السيدات : خاتون (5) وبنفس المعنى المتداول خانم و هانم .
ولكن ماذا عن نظام الحارات ؟ والزعامات ؟
الحارة تسمية حديثة لا نجدها في الشعر الجاهلي رغم أن المدنية عرفت حينها وهناك الكثير من أسماء المدن فيالعصر الجاهلي .
حارة لفظة عربية كنعانية لفظها السومريون هارة . هورة . ولفظها سكان فلسطين أورا – أور . واللفظة تعني ماتم بناءه من مساكن متلاصقة بينها ممرات ضيقة والممر بالسلجوقية التركمانية زابوك – زابوق – زابوقة . وبالأمازيغية زنكة . وزنقة .
ومن الأمازيغية انتقل إلى العربية فقالوا رجل مزنوق أي واقع في ضيق العيش ويستخدمها المصريون أكثر من غيرهم ومفردها عندهم زنأة .
فالحارة نظام حضري لا بدوي إنها كل مدينة مأهولة ثم صارت تستخدم للدلالة على تجمعات عائلية صغيرة ضمن المدينة الواحدة . فقالوا حارة بيت فلان وحارة فلان نسبة لأحد المشهورين فيها . وقد تسمى بأسماء معالم معينة : حارة السجن – حارة الجامع – حارة السرايا .حارة الصيادين – حارة الشحادين – حارة الخمارة . حارة اليهود … الخ .
في فترة الاستعمار الفرنسي والمقاومة كان الثوار يعقدون اجتماعاتهم السرية بعيدا عن الانظار وكان لابد من تشكيل اللجان الشعبية وضبط العامة واتقاء شر ” العيون ” (6) أي الجواسيس والمخبرين . ويجب أن يخضع كل قطاع لأحد المتنفذين . ومن هنا جاء لقب شيخ الحارة – زعيم الحارة . إلا أنه حالة مؤقتة زالت بزوال الاحتلال – إلا أنها استمرت للأسف في الدراما السورية بالشكل الذي لم تكن عليه في حينها . والغريب أننا في المسلسلات السورية – بعضها – نجد الزعيم هو الآمر الناهي . والكلمة الفصل والذي يهابه كل أهل الحارة وهو الذي يعقد اتفاقيات التفاوض مع ” الحارات ” الأخرى ويعقد الصفقات وبمباركته الزواج والختان والحفل الكريم .
=========
الهوامش من كتابي : ألفاظ ومعان . الخرطوم – 2010 .
(1) : كلمة بيك لفظة تركية بمعنى الكبير – السيد – صاحب المقام . وهي رتبة أميرية تطلق على موظف في السلطنة رفيع المستوى وهو صلة الوصل بين الوالي والرعية .ثم صارت تطلق على أصحاب الأراضي والمال .وهي بالأصل لفظة سورية أوغاريتية ولفظها أهل الساحل ” بي ” لأن الأوغاريتيين لا يلفظون الحرف الأخير في أخلب الكلمات . فقالوا مثلا : واح بمعنى واحد . و بي أصلها بيك . والأب ” بي ” بمعنى السيد رب البيت . وقد سبق الحديث عن لفظة أب في كتابنا
، ولفظة بي أخذها المصريون فأضافوا عليها هاء السكت . فقالوا : بيه بمعنى سيد.
(2) : كلمة آغا كلمة فارسية تعني السيد وأغلب الفرس يلفظونها آقا .
(3) : كلمة باشا – لقب تشريف تركي .وفي الأصل مأخوذ عن البهلوية والكردية بمعنى السيد الكريم الذي لا تنطفئ النار في موقده .
(4) : كلمة أفندي كلمة تركية ذات أصل يوناني وتعني السيد في قومه .
(5) : هناك أكثر من رأي في أصل كلمة خاتون فقيل إنها من تأنيث كلمة «خاقان – تون» التي تعني الملك أو السلطان ويكون بذلك معنى خاتون: السيدة أو المعظمة أو السلطانة. وقيل أصلها كردي وفارسي خانم بمعنى ربة بيتي خان + نم .
إلا أنني أميل إلى أن ” خاتون ” كلمة كنعانية استعملها أهل فلسطين وسورية واستعملها المصريون القدماء في عهد الفراعنة وقد حذفوا الخاء لصعوبة لفظها . فقالوا : أتوون بمعنى النار التي لا تنطفئ . وكل شيء ساخن فهو أتون . فنقول بالعربية أتون الحرب أي نيرانها . ولما كانت النار مقدسة وذات بعد ديني في مجتمعات كثيرة فقد جعلوا المرأة العظيمة ” خاتونا ” ثم استخدمها الأتراك فقالوا : خاتون السيدة العظيمة صاحبة السلطة والجاه .ثم حوّروا في الاسم فقالوا خانم .
(6) كانت تطلق لفظة العيون على الجواسيس الذين يعملون سرا بالتجول في الحارات والأزقة والأسواق لنقل أخبار الرعية لصاحب الشرطة والذي ينقلها بدوره إلى الوالي .
Discussion about this post