يقول روبرت ساتلوف المدير التنفيذي لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى إن لدى السعودية الكثير من الأمور التي تقلق من أجلها بيد أن إعلان ترامب بشأن مدينة القدس ليس إحداها.
كتب روبرت ساتلوف في "فورين بوليسي":
السعودية المدافعة عن الإسلام وأرض الحرمين هي مكان جيد لقياس مدى تأثير اعتراف الرئيس دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل على مصالح الولايات المتحدة في المنطقة. بعيداً من ردة فعل التنظيمات الإرهابية كحماس وحزب الله والدول الراعية لهما في طهران ودمشق، والردود الغاضبة من السلطة الفلسطينية والمملكة الهاشمية الأردنية والعدد الضخم من الفلسطينيين الذين يشكلون استثناءاً، يبقى السؤال الحقيقي عن كيفية تصرف أصدقاء أميركا بمجرد خروجهم من دائرة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
المكان الذي من الطبيعي توقع سماع المسلمين فيه يعبرون عن غضبهم الشديد لتسليم القدس لليهود هو أروقة الحكم في العاصمة السعودية الرياض لكن ذلك لم يحدث.
خلال الأسبوع الماضي كنت في الرياض على رأس وفد من أكثر من 50 زميل وداعم لمركز الدراسات الذي أترأسه (معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى). يوم الأربعاء وقبل ساعات من إعلان الرئيس الأميركي بشأن القدس أمضينا خمس ساعات من الاجتماعات مع ثلاثة من الوزراء السعوديين نناقش فيها كل الأزمات من اليمن إلى قطر ولبنان إلى "رؤية 2030" الاصلاحية الطموحة إلى الاكتتاب العام في شركة أرامكو النفطية.
بحلول ذلك الوقت كان البيت الأبيض قد أطلع العديد من الدبلوماسيين الأجانب وسرّب للإعلام فحوى القرار، وبالتالي جوهر الإعلان كان معروفاً في حينها. لكن بالرغم من وجود فرص كثيرة لم تذكر كلمة القدس على الإطلاق.
ربما كان السعوديون ينتظرون انتهاء اجتماعنا الأخير في ذلك اليوم، كنا نعقد اجتماعاً مع الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي التي كانت على مدى عقود سيئة الصيت لنشرها نسخة متطرفة من الإسلام وتمويل المساجد والمؤسسات الدينية التي كانت بمثابة حاضنة للجهاديين السنة. قلت لا شكّ إن رئيس الرابطة سيستنكر الهجوم الأميركي على قدسية السيطرة الإسلامية على القدس. لدهشتي، كانت لدى الأمين العام الجديد للرابطة محمد العيسى رسالة مختلفة تماماً. لم ينبس ببنت شفة عن القدس. بدلاً من ذلك تحدث بفخر عن العلاقات التي أنشأها مع الحاخامات في أوروبا وأميركا خلال الزيارة الأخيرة التي قام بها للكنيس في باريس وحوار الأديان الذي قال إنه ملتزم به الآن. هذا لم يكن متوقعاً من السعودية.
ثم قلت في نفسي ربما ينتظر السعوديون ماذا سيقول الرئيس ترامب في تصريحه على أمل أن تقنعه توسلات الدقيقة الأخيرة بتغيير رأيه.
ولأن الرئيس لم يتحدث حتى الساعة التاسعة مساء بتوقيت الرياض خلدت إلى النوم في تلك الليلة وأنا على ثقة أننا سنشهد قريباً عذاب الجحيم من قبل السعودية القديمة.
حين تمّ تأكيد اجتماعنا مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في صباح اليوم التالي علمنا أننا سنحصل على الردّ الحازم.
محمد بن سلمان وعد بالتغيير الثوري والسريع في بلاد لم يكن يتحرك فيها أي شيء بسرعة فيما كلمة "ثوري" تعدّ كلمة قذرة. وقد سبق أن أثبت أنه يفعل وليس الأمر مجرد كلام من خلال تركيز كل سلطات المملكة السياسية والعسكرية والاقتصادية عملياً بيده. عند هذا الحدّ تقف الأمور في السعودية هذه الأيام.
كلمة عن اللقاء ببن سلمان: في بلد من غير المعروف عنه السياسة المجزأة لدى بن سلمان المهارات الطبيعية للسياسي بالفطرة. بالرغم من أنه يلبس العباءة والصندل إلا أنه بدا كثير الشبه ببيل كلينتون لناحية الكاريزما والمكانة. وبعد ثمانين دقيقة من اللقاء أنهيت الاجتماع كي لا نفوّت رحلة العودة جال في أرجاء الغرفة وصافح كل الأيدي بحيث لم تبق يد لم يصافحها.
من السهل معرفة أسباب افتتان الشباب في الرياض من طلاب ورجال أعمال طموحين وتكنوقراط صاعدين بمحمد بن سلمان. التقيت بعض زعماء الشرق الأوسط على مرّ السنين وقلّه منهم مثل ملك الأردن كان يمتلك الموهبة في معرفة متى وكيف يستخدم السحر والحكمة والغضب والأمل واليأس. محمد بن سلمان يمتلك هذه الدينامية التي نادراً ما رأيتها في هذا الجزء من العالم.
بالرغم من أنه من الواضح أنه يتحدث ويفهم الإنكليزية إلا أنه اختار أن يخاطبنا باللغة العربية وبعد جمل قليلة عرفت السبب. فبمجرد أن فتح فمه تدفقت الكلمات كما لو أنها سيول.
كان لدى محمد بن سلمان الكثير ليقوله عن الأفكار غير الإسلامية حول فصل النساء عن الرجال واحتواء إيران الآن ومن ثم محاربتها وعن مئات المواضيع الأخرى التي بدا أنه لا يملك الوقت الكافي ليقولها. لكن لم يبد أن القدس كانت أحد هذه المواضيع. لولا سؤالنا إياه بشكل مباشر عن إعلان ترامب لما كان أتى على ذكر الأمر ربما. أردنا أن نترك الرياض ولدينا فهم واضح لوجهة نظره حول هذه القضية لذلك سألناه. وللحفاظ على شيء من السرية لن أنقل ما قاله حرفياً لكن يمكنني أن أقول التالي: حصر موقفه بكلمة تعبّر عن خيبة أمله من قرار ترامب ومن ثم انتقل مباشرة للحديث عن الأماكن التي يمكن للرياض وواشنطن أن تعملا فيها معاً من أجل الحدّ من التداعيات وإعادة الأمل لعملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية.
لم يتوقف عند هذا الحدّ. ففي اليوم الذي وصف على نطاق واسع بأنه الأكثر قتامة في تاريخ العلاقات الأميركية مع العالم العربي منذ عصور قدّم محمد بن سلمان رؤية مختلفة تماماً عن العلاقة السعودية الأميركية والشراكة السعودية الإسرائيلية المحتملة.
بما يتعلق بالأولى جدد التأكيد على متانة الشراكة الأمنية الذي عبّر عن فخره بأنها الأقدم في المنطقة حتى أقدم من تلك التي تربط الولايات المتحدة بإسرائيل. أما بخصوص إسرائيل نفسها فقد أورد ملاحظة إيجابية على نحو غير معتاد. بخلاف ما سمعته من الزعماء السعوديين في زيارات سابقة لم يذكر بن سلمان أي شيء عن توسع وغطرسة وعدم عدالة إسرائيل وتعديها على حقوق المسلمين في القدس. بدلاً من ذلك تحدث عن العلاقات السعودية الإسرائيلية الواعدة حين يتم التوصل إلى السلام وأكد التزامه بتحقيق ذلك عملياً.
كانت تلك وجهة النظر الرسمية السعودية. خلافاً لتوقعاتنا بسماع انتقادات للولايات المتحدة وإدانة لترامب سمعنا بدلاً من ذلك توبيخاً خفيفاً لتحوّل موقف الرئيس الأميركي بشأن القدس ونظرة يحدوها الأمل للشراكة السعودية الإسرائيلية. لم تكن لدينا فرصة للإصرار على محمد بن سلمان لمعرفة ماذا سيفعل السعوديون تحديداً لحث السلطة الفلسطينية على التوصل إلى اتفاق مع الإسرائيليين لكن في مثل تلك اللحظة سماع ولي العهد السعودي يتحدث عن الشراكة الحالية مع واشنطن وعن الشراكة اللاحقة مع القدس بعد توقيع السلام فاق توقعاتنا.
هل كان محمد بن سلمان يعبّر عما يريد جمهوره سماعه؟ ربما. لقد تأثرنا بشكل خاص بسعيه نحو "الإسلام المعتدل" وادعاءه بأنه قلّص على نحو دراماتيكي عدد المتطرفين في المؤسسات الدينية السعودية. قدّم إحصاءات دقيقة حول سوء الوضع قبل سنتين وتوقّع بأن تصبح المشكلة أصغر من هنا وحتى ثلاث سنوات. في ما بدا بالنسبة لي اعترافاً صارخاً بالمسؤولية السعودية عن التعصب الديني وإشارة قوية إلى التزامها بالتغيير.
في الواقع يبدو خطابه جيداً جداً بحيث لا يمكن تصديقه. من وجهة نظري لا يبدو الأمر وكأن السعوديين أحرزوا تقدماً كبيراً في مواجهة النفوذ الإيراني في العراق أو قلب المشهد في اليمن كما يدّعون.
ماذا لو قال لنا محمد بن سلمان ما نريد أن نسمعه؟ بحيث اغتنم الفرصة لتوجيه رسالة من خلالنا إلى الزعماء الأميركيين وإلى أصدقاء الولايات المتحدة من الإسرائيليين بشأن الأثمان الباهظة للاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. لكنه لم يفعل ذلك وهو ما يعدّ مسألة كبيرة.
إن هؤلاء الذين تنبأوا بأن الرد العربي والإسلامي على الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل سيكون بمثابة نهاية العالم من موجات التظاهرات المناهضة لأميركا إلى العنف الجماعي ضدّ المواطنين والمؤسسات والمصالح الأميركية إلى النهاية الحتمية للنفوذ الأميركي في المنطقة، يبدو أنهم كانوا على خطأ. فردّة فعل العرب الذين يعوّل عليهم أي حلفاء الولايات المتحدة كانت رصينة وناضجة وموزونة. والسعودية، مهد الإسلام، هي أحد الأمثلة على ذلك.
Discussion about this post