دراسة تحليليّة نقديّة لقصيدة ” في فلك الكمنجة” للشاعر الشاذلي القرواشي.
في تركيب العنوان ودلالته
اختار الشاعر لقصيدته عنوانا بدا لنا على قدر كبير من الجدّة والطرافة وهو طبعا العتبة الأولى لدراستنا والذي يشي بدلالات كثيرة ذات بعد رمزي في رأينا “في فلك الكمنجة” مركب بالجر في :حرف جر له معان كثيرة غير أنه هنا استعمله الشاعر بمعنى المكان الذي يحدده في المجرور الذي أورده في مركب إضافي وهو “فلك الكمنجة” وهنا نلاحظ خصوصيّة المكان وطرافته في المضاف وهو “فلك” والفلك لغويا جمع أفلاك وفلك وهو التلّ المستدير من الرمل حوله فضاء وهو أيضا المدار يسبح فيه الجرم السماوي وعلم الفلك علم يبحث في الأجرام العلوية وأحوالها وفلك البحر أمواجه المضطربة ويقال فلك البروج دائرة ترسمها الشمس في سيرها في سنة واحدة وكل دائرة تقسم إلى اثني عشر برجا ويتعمق الإحساس بالطرافة بالمضاف إليه “الكمنجة ” وهي الآلة الوترية وتعتبر ابنة عم الرباب آلة طرب ذات أربعة أوتار وقوس وهنا لا يمكن لنا كمتقبلين إلا أن نصاب بنوع من الاندهاش إنها دهشة التلقي بما يبعثه فينا من إبهار يجعلنا نتساءل هل للكمنجة فلك؟ وما المقصود بذلك؟ وسرعان ما نتذكر المدونة الشعرية للشاعر “الشاذلي القرواشي” الذي عودنا بمثل هذه العناوين التي تحيلنا في أغلبها على مرجعياته الفكرية والأدبية والفلسفة التي يستقي، منها معانيه فهي متابعه التي تشبع بها، وتجسدت في شعره وهي لعمري منابع عميقة في مضامينها ودلالاتها وأبعادها ومن هنا يأخذنا هذا العنوان بكل ما تضمنه من طاقة إيحائية دفعتنا لنغوص، في ثنايا القصيدة محاولين الظفر ببعض ما كان يرمي إليه شاعرنا وينشده من مقاصد تؤرقه.
وردت قصيدة شاعرنا “الشاذلي القرواشي” في فلك الكمنجة “على البحر البسيط التّام وهو من البحور المزدوجة التفعيلة يقوم على تفعيلتين ( مستفعلن (الرجز) وفاعلن ( المتدارك) مستفعلن /فاعلن /مستفعلن /فاعلن وقد سمي البحر البسيط لانبساط أسبابه أي تواليها في مستهل تفعيلاته وقيل لانبساط الحركات في عروضه، وضربه في حالة خبتهما إذ تتوالى ثلاث حركات كما أن البسيط من البحور الطويلة في الشعر، يعتمده أكثر الشعراء في الموضوعات الجدية كما إنه يمتاز بحزالة الموسيقى ودقة الإيقاع ونجده كثيرا في أشعار المولدين من الشعراء المجددين “إن البسيط لديه يبسط الأمل مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن” وأما الروي فهو، الباء وهو حرف شفوي، يتميز الشدة والانفتاح وهو حرف انفجاري إذ تتذبذب أثناء نطقه الأوتار الصوتية ومن هنا اعتبر حرفا جهريا
من البنية إلى الدلالة.:
الصور وفتنة المعنى والدلالة في قصيدة “في فلك الكمنجة”
ارتأينا في قراءتنا للقصيدة أن نرصد ما قامت عليه من حركة تصاعديّة في مستوى الخطاب الشّعري الذي اعتمده الشّاعر في مستوى صوغ المعاني والدّلالات وأول ما يطالعنا عنصر، الاستهلال في البيت الأول وهو يمثل في حدّ ذاته حمالا العديد من المعاني فقد اعتمد الشاعر على الخطاب المباشر، في أسلوب طلبي هو النّهي ضمنه غرضا وعظيا سرعان ما أردفه بأسلوب التفصيل بحرف، “أو” كما أننا نقف على نوع من تمجيد الذات المبدعة والاعتداد بالنفس في غرض، فخري لعل الشاعر شاء بذلك أن يؤكد على تمكنه من أدواته الشعرية فهو من فحول الشعراء الذين خبروا الحرف والفحولة تعني قدرة الشاعر العالية في القول الشعري وتفرده وتميزه عن غيره من الشعراء والشاعر الفحل هو الشاعر المجيد المتمكن القادر على الابتكار كما حدد ذلك “الأصمعي” في كتابه “فحول الشعراء” وهذا ما يؤكده الشاذلي القرواشي في قوله : “لا تجهد الحرف حتى تكتوي لهبا أو يبسم الصخر إن حولته ذهبا” وهكذا يبدأ عنصر، الإبهار بمجموعة من الاستعارة التي تحمل فعل المتكلم وما يصبو إليه وهو العارف الولهان بأصول الشعر، فيقول : “لا تمتحني بما في الشعر من وله إني الشفيف وهذا القلب كم وصبا” غير أنه سرعان ما يتساءل في حيرة مقيتة وهو ذلك الساعي إلى بناء ذاته برغم الوجع والألم فيقول : “هل أسكب العمر في كاسات غرتنا أم أسكب الوهم؟ ام هل كلي انسكبا؟”. ويتحول الخطاب بتغير المخاطب الذي يتمثل في الهدهد كما يتغير أسلوب هذا الخطاب فمن النهي يمر إلى الأمر في قوله :” يا هدهد البين جئ بالعرش معذرة جرح القصيدة موجوع وان كذبا”.
وتتبدى لنا “الأنا” وهي ذات الشاعر التي تطفو منذ البدايات وهو الذي يشق معترك الوجود بالقوة وبالفعل إنه الشاعر الذي يأتي بالمعجزات برغم الضياع والتّيه وإن هو أضاع الدّرب فيصرح قائلا: “مذ أول النّوء كان الموج يغمرني فكرت في العود ما أوجدت لي دربا”، ويردف قوله ليؤكد جازما بالنفي مبررا ذلك بصورة مبهرة في قوتها الإيحائية والتعبيرية:” لم أفلق البحر لكن تلك معجزتي في جوف حوت نزعت الطمي والحجبا”. وهنا نقف على ما أسميناه فتنة الصّور التي تستمد جماليتها الفنيّة المتفرّدة في أبعادها الدلالية المتمثلة أساسا فيما يطمح إليه الشاعر من دعوة الإنسان إلى أن يسعى إلى تحرير نفسه وتطهيرها من قيود رانتْ على نفسه وجثمت على كيانه عبر وجوده.. شكّـلها شاعرنا في مدارات ميتافيزيقية بما حملته من طاقة تخييليّة ألبسها قوة تأثيرية من خلال الأصوات والموسيقى في إيقاع متناسق مع المعنى والمضمون وهو في تشكيله للصور كان ينتقي الألفاظ وبضعها في موقعها الملائم، وهذا ما يجعلها مشحونة بأبعاد شتى تترك أثرها في المتلقي لاسيما فيما اكتسبه من قدرة معجزة في إفلاق البحر وهو الذي لا يمكن لأي قوة في الكون أن تقف حائلا دون ما يصبو إليه، ولذلك يحيلنا على معجزات الأنبياء (موسى أو يونس عليهما السلام). إن شاعرنا يدرك الفكرة ثمّ يشكلها بطريقته الموحية وهنا فهو لا يخرج عن التصور القديم للشعر باعتباره ذا صلة بالإلهام الإلهي في اعتقاد العرب منذ الجاهلية في أن لكلّ شاعر شيطانا أو ملاكا ملهما يقول الشعر على لسانه ومن هنا أمتلك شاعرنا هذا الخيال الخلّاق البعيد عن ذلك التصوير العقيم المتبلد لأنّ في داخله روحا ملهمة وعاطفة مشبوبة تجعله في نشوة صوفية أو فلنقل نشوة النبوءة وهو يعيش وجد الحب ونقاءه في قوله:” في مسمع الكون طار الشدو بامرأة وطار قلبي إليها في المدى سربا”. ويتماهى مع هذه الصورة بكل ما تحمله من انتشاء فيعتلي محلقا في سماء الوجد مع امرأة طار إليها قلبه:”حلّقتِ بي في سماء الوجد مسرعة والدهر ينسج من أشواقنا سببا”.
وهنا نؤكد على أنّ الصنعة وحدها لا تكفي لخلق الشعر وإجادة القول فيه على حد تعبير الناقد “محمد غنيمي هلال” الذي يبرر رأيه في قوله :” إذ إن شعر المرء البارد العاطفة يظلّ دائما لا إشراق فيه إذا قرن بشعر الملهم” وهذا ما جعل شاعرنا لا يخضع لتلك الصور التقليدية في حليتها البلاغية العقيمة والتصاقها بالنظم أكثر منها بالشعر الأصيل، بل صاغ معانيه على أساس من الوعي الذهني والصدق العاطفي بما اكتسبه من عبقرية الإلهام الذي قد يقترب من الجنون التعبيري في كل ثنايا القصيدة بدءا بالعنوان في مثل قوله” : إن تعزفي الآن روحي في أعنتها وموج حالي في بحر الهوى اضطربا”. ولأن الفن حلم فإن قصيدة “في فلك الكمنجة” قد حملت حلم الشاعر برغم الجراح يستعيض به عن واقع بائس مرير ليسبح في فلك الكمنجة التي تتحول إلى جمع في قوله:” جرح الكمنحات معراج وأقبية وما الحروف سوى ما كان منتسبا للبوح…”. لذا اعتبر صمته موحيا حمال للمعاني لأنّ الصمت لغة أيضا فقال:” لكن بي في الصمت مكرمة تأبى اللغات إذا حدثتها عجبا”. وهل لنا أن نستغرب ذلك وهو السارد لذاته الناحت لوجوده من ابتسام الصخر الذي تحول ذهبا وقد عن ذلك بقول أورده في صورة مدهشة: “سردت ذاتي.. وسرد الذّات مجمرة ظللتُ أمشي مع الأيام ملتهبا”. وإنه وبرغم غربته الوجودية فقد حوى الكون وتوغل فيه مستكنها ماهيته عله يتخلّص من غربته فقال:” أوغلتُ فيَّ فبت الليل أسألني عجبت مِنْ أمر مَنْ عنْ ذاته اغتربا”.
هكذا نخوض، مع الشاعر “الشاذلي القرواشي” رحلة في فلك الكمنجة أو في فلك قصيدة تأخذنا إلى أبعاد قصيّة من المعاني والدلالات المبهرة، ويتضح لنا من هذه القصيدة خاصة وشعره عامّة ما يتّسم به من تجديد في القصيدة الحديثة وإن هو التزم بضوابط المقاييس الشعرية التقليدية في مستوى الشكل فهو شاعر متسلح بروافد فكريّة فلسفية متعددة لا سيما الشرقيّة منها ينهل منها.. إنه الشعر المرتبط بالنزعة التصوفية وهذا التصنيف لا يعني بالضرورة أن الشاعر متصوف لأن أداة الإدراك عنده هي المعين الذي يستقي منه باعتماد لغة الخاصة لا لغة العامة.. إنها لغة المجاز والرمز في صور تختزل رؤيته للكون والطبيعة وفيما نجده من توالد لفظي له فتنه الدلالية مدارها مجموعة من العناصر الطبيعية المتنوعة التي تسير بنا من الأسفل إلى الأعلى ومن الذات إلى الموضوع ومن الباطن إلى الظاهر ومن المحسوس المادي إلى الروحي الوجداني،.. (الماء /الغيم /النعناع /، الريحان /السماء /الموج /الليل…). وعبر كل ذلك ينقاد الشاعر طواعية مع حلم قد سكنه فكان له زادا لرحلته حتى وإن نُهب هذا الحلم حين يقول:” فهفَّ قلبي لأبني في الرّؤى سكنا وكان زادي من الأحلام قد نهبا”. لذلك نراه مطيعا لقانون الجذب لأن قانون الجذب له في الهجر فلسفة يغدو الذي من نَأى في البعد مقتربا إنها لغة الخيال والحدس وهما الركيزة الأساسية في التجربة الصوفية وفي التجربة الشعرية للشاذلي القرواشي، لذلك كان الجمع بين التجربتين أمرا لا بد منه وهذا ما عبر عنه في قوله :” لمحتُ في خيالا كنت أحدسه فبت أقفو غزالا من دمي وثبا”. وهنا نستحضر بعض الشعراء المتصوفين الذين يبدو أثرهم واضحا في، شعر “القرواشي” وهم طائفة من أعظم الشعراء كجلال الدين الرومي وابن عربي وابن الفارض وهكذا يضع شاعرنا ذاته محورا للأشياء ليواجه سر الكون والعالم وهو الذي كما قال:” وكنت فيك بذورا سوف يدركها من سار خلفي في حقل الهوى رغبا”.
إن شاعرنا وفي حضرة هذا الامتداد، الروحي يلجأ إلى الرمز برؤية تجريدية في جماليتها الانزياحية الخارقة للمألوف متجاوزا الاعتقاد الخاطىئ عن عجز التعبير ومحدودية اللغة فكما قال “الفيلسوف المتصوف” النفري “:فكلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة” وهذا جعله بعيدا عن السقوط في منحدر النظم والخطابة متوسلا أساليب مختلفة تعبر عن هذه الوحدة الوجودية وهذا لا يختلف عن القول بأن العالم ظل الله في مذهب “ابن العربي،” في وحدة الوجود ولذا رأى الشاعر “الشاذلي القرواشي” أن ذاته هي مبتدأ هذه القصيدة ومنتهاها وما بين المبتدأ والمنتهى مساحة للحلم والتوق إلى بناء عالم أجمل عبر هذا الكون الشعري في قوله:” لا تمتحني بما في الشعر من وله إني الشفيف وهذا القلب كن وصبا”. وتغدو له وظيفة جمالية بالمفهوم الهيكلاني الألسني فالكلام في الشعر بلاغي إبلاغي كما أكد الأستاذ ” حسين الواد” في قوله ” ولأن العمل الشعري يتأثر، بأداة الإبلاغ وبالإبلاغ استعملت فيه اللغة استعمالا خاصا في مستوياتها الأربعة (المعجمي والصوتي والتركيبي والدلالي) لغاية خلق الوظيفة الجمالية”.
هكذا يعيش الشاعر تجربة التحدي مع الأحلام والرؤى وسيلته الحرف الذي اكتوى بلهيبه وهو الذي كما قال:” في خمرة اللحن للأوتار ذاكرة تُرَوحنُ العمرَ والأحلامَ لحنَ صَبَا” وتغدو القصيدة زادا له في رحلته وهي قصيدة موقعة على أنغام كمنجة بقي يطوف في فلكها ليتسمع أغنيته الخالدة علّها تخلصه من غربته فيقول:” والآن أمضي غريبا صوب أغنيتي ونوتة الروح قد عتقتها عنبها”. هكذا تنغلق القصيدة انغلاقا يشي بالإحساس المقيت بالغربة بنفس صوفي، يهيمن على المقام ولكنه يبقى أسيرا في فلك الكمنجة تلك هي تجربة الشاعر المبدع “الشاذلي القرواشي” وقد تجلت في هذه القصيدة التي بدت في رأيي بحجم ديوان كامل لأنها تختزل تلك التجربة الثرية بكلّ ملامحها الرمزية السريالية في إطار تصوفي في رحلة عشق خاضها في مجاهل نفس مرهقة بكل تعرجاتها في زمان ومكان مطلقين لا حدود لهما أي ما قبل تحكم قوانين العقل والمنطق إنه زمن الشاعر الذي يخلقه بخياله المجنح زمن الطهر، والنقاء، والانسجام مع الكون والطبيعة والاتحاد بهما وتلك نتيجة طبيعية وهي الفناء في المطلق وتحطيم الأسوار التي تحد المتناهي وتقيد الذّات ويبقى كما يقول:”ليلي مقيم وليل الغير منعدم من عانق الروح موجود وإن ذهبا”.
الخاتمة
إن من يدخل العالم الشعري للشاذلي القرواشي، يكون قد دخل حقلا ملغما على العديد من المستويات لا سيما في مستوى الإبهار والإدهاش وما قصيدة “في فلك الكمنجة” إلا عينة من أشعاره، إنها قصيدة مذهلة بلغت من الإبهار ما ينوء به فكر القارئ المتلقي إنْ شكلا أو مضمونا وبقدر ما تمتعنا أوتار الكمنجة بنغماتها الساحرة بقدر ما تبطنه من آلام وأوجاع تنقش على الروح الجراحات والندوب.. إنها قصيدة فتنة الصور.. إنها نص مراوغ لأن الإمساك على معانيه ليس بالأمر الهين أو السهل إنه طبقات من المعاني والدلالات وهو الذي يتساءل في حيرة ممضة : “هل أسكب العمر في كاسات غرتنا ام أسكب الوهم؟.. أم هل كلي انسكبا!؟”.. لقد كان الشاعر يحوم حول أناه منجذبا إليها انجذابا جنونيا كان عشقه لها عشق النرجسي المفتون بما يتراءى من مشاهد في مرآة ذاته، أو الصوفي عشقا متوهجا بأنفاس ولهه هكذا هو الإنسان عند شاعرنا بمحيطيه.. بكل ثنائياته الباطن والظاهر المادي والروحي وبكل عناصر الصراع التي يستثمرها بما امتلكه من قوى وملكات ليكون الخالق المبدع لوجوده من العدم ليتخلص من كل ما هو حيواني غريزي عن طريق الوجدان والعقل والإدراك وبإحساسه الجمالي بوجهه المجرد، أو التجريدي ومن هنا كان إدراكنا لجمالية الصور التي اعتبرناها منفذا للفهم بكل ما تحمله من فتنة المعنى والدلالة كما بينّا، وبكل ما تتركه من وقع وأثر، في القارئ المتلقي المتقبل الذي لا شك في أنه يصير مشاركا في خلق العملية الجمالية وهذا ما يخلق في نظرنا ما أسميناه بحوار الصور، وهو ما يعطي تلك الطاقة الإبداعية قيمتها ووزنها الإبداعي فليس المهم في ظاهر الصور بل فيما يقع بينها من تفاعل في المعاني والدّلالات وهكذا تبقى قصيدة “في فلك الكمنجة” تستأنف رحلتها عبر قراءات مختلفة ومتنوعة لأن الشاعر لا يكتفي بأن يعطينا درسا في عدم تهميش المخيلة بل إنه يطلق العنان لها عندما يقف على تجربته بكل عناصرها وتجلياتها وأجزائها بفكره فيرتبها ترتيبا منطقيا في نظام تخييليّ له إيقاعه الموسيقي وصوره المبهرة المدهشة الفاتنة بكل ما فيها من إيحائية وقدرة على إنتاج المعاني.. إنها صور تخترق الصمت في مناجاة للكون الظاهر والباطن لما نراه وما لا نراه لما نعيه وندركه بالحواس وبالعقل والروح والوجدان عندما نسبح مع الشاعر في “فلك الكمنجة” نغدو في عالم سحري أداته هذه الآلة الموسيقية الصغيرة بكل ما تبوح به من همس ونجوى تدغدغ الروح والقلب والنفس.. فتبقى القصيدة منفتحة على قراءات متنوعة مختلفة في الرؤى ومع ذلك تظلّ في رأينا عصيّة لا نقدر على اختراق كل معانيها وفض مغالقها وفك شفرة أبعادها إنها قصيدة بحجم ديوان مثلما قلت آنفا لا سيما فيما يصبح الأمر متعلقا بعالمين ملتبسين هما العالم الباطني الروحي غير المنظور والعالم المادي المحسوس المنظور وكم هو عجيب وممتع عندما نختزل هذين العالمين في مشهديّة مبهرة تستحوذ على الألباب في عالم واحد، ممتد، مطلق، تؤلف بينهما وتصبح الذات الصغيرة تحتوي الكون ويحتويها وتغدو سابحة في ملكوت “فلك الكمنجة”
الخاتمة إن من يدخل العالم الشعري للشاذلي القرواشي، يكون قد دخل حقلا ملغما على العديد من المستويات لا سيّما في مستوى الإبهار والإدهاش وما قصيدة “في فلك الكمنجة” إلا عيّنة من أشعاره، إنّها قصيدة مذهلة بلغت من الإبهار ما ينوء به فكر القارئ المتلقي إن شكلا أو مضمونا بقدر ما تمتّعنا أوتار الكمنجة بنغماتها الساحرة بقدر ما تبطنه من آلام وأوجاع تنقش على الروح الجراحات والندوب.. إنها قصيدة فتنة الصور.. إنها نص مراوغ لأن الإمساك على معانيه ليس بالأمر الهين أو السهل إنه طبقات من المعاني والدلالات وهو الذي يتساءل في حيرة ممضة :” هل أسكب العمر في كاسات غرتنا ام أسكب الوهم؟.. أم هل كلي انسكبا!؟”.. لقد كان الشاعر يحوم حول أناه منجذبا إليها انجذابا جنونيا كان عشقه لها عشق النرجسي أو الصوفي عشقا متوهجا بأنفاس ولهه هكذا هو الإنسان عند شاعرنا بمحيطيه بكل ثنائياته الباطن والظاهر المادي والروحي وبكل عناصر الصراع التي يستثمرها بما امتلكه من قوى وملكات ليكون الخالق المبدع لوجوده من العدم ليتخلص من كل ما هو حيواني غريزي عن طريق الوجدان والعقل والإدراك وبإحساسه الجمالي بوجهه المجرد، أو التجريدي ومن هنا كان إدراكنا لجمالية الصور التي اعتبرناها منفذا للفهم بكل ما تحمله من فتنة المعنى والدلالة كما بينا وبكل ما تتركه من وقع وأثر في القارئ المتلقي المتقبل الذي لا شك في أنه يصير، مشاركا في خلق العملية الجمالية وهذا ما يخلق في نظرنا ما أسميناه بحوار الصور، وهو ما يعطي تلك الطاقة الإبداعية فليس المهم في ظاهر الصور بل فيما يقع بينها من تفاعل في المعاني والدلالات وهكذا تبقى قصيدة “في فلك الكمنجة” تستأنف رحلتها عبر قراءات مختلفة ومتنوعة لأن الشاعر لا يكتفي بأن يعطينا درسا في عدم تهميش المخيلة بل إنه يطلق العنان لها عندما يقف على تجربته بكلّ عناصرها وتحلياتها وأجزائها بفكره فيرتبها ترتيبا منطقيا في نظام تخييلي له إيقاعه الموسيقي وصوره المبهرة المدهشة الفاتنة بكل ما فيها من إيحائية وقدرة على إنتاج المعاني.. إنها صور تخترق الصمت في مناجاة للكون الظاهر والباطن لما نراه وما لا نراه لما نعيه وندركه بالحواسّ وبالعقل والروح والوجدان عندما نسبح مع الشاعر في فلك الكمنجة نغدو في عالم سحري أداته هذه الآلة الموسيقية الصغيرة بكل ما تبوح به من همس ونجوى تدغدغ الروح والقلب والنفس تبقى القصيدة منفتحة على قراءات متنوعة مختلفة في الرؤى ومع ذلك تظلّ في رأينا عصية لا نقدر على اختراق كل معانيها وفض مغالقها وفكّ شفرة أبعادها.. إنها قصيدة بحجم ديوان مثلما قلت آنفا لا سيما فيما يصبح الأمر متعلقا بعالمين ملتبسين هما العالم الباطني الروحي غير المنظور والعالم المادي المحسوس المنظور، وكم هو عجيب وممتع عندما نختزل هذين العالمين في مشهديّة مبهرة تستحوذ على الألباب في عالم واحد، ممتد، مطلق، تؤلف بينهما وتصبح الذات الصغيرة تحتوي الكون ويحتويها وتغدو سابحة في ملكوت “فلك الكمنجة” (الدكتورة الناقدة مفيدة الجلاصي).
في فَلَك الكمنجة
.
لا تَجْهد الحرفَ حتّى تكتَوي لهبا
أو يَبسَم الصّخرُ إن حولتَه ذهبــــا
أو يســـــرُد المــــاءُ في القــيــعـــــان قصّـتَـه
أو تُطعم الطّفلَ في أحشائكَ الرّطبا
مُذْ حدّق الغيـــــــــــم في النّعــــناع يرقبــه
تسـرَّبَ القحط في الرّيحــــان مغتــصبا
لا تمتحنّي بما في الـــشّعــــــر من ولَــه
إنّي الشّفيف وهذا القلب كمْ وصــبـــا
هل أســـكـــب العمـــــرَ في كـــــاسات غرتنــــا
أم أسكب الوهم؟..
أم هَلْ كُــــلّيَ انسكبــــــــا؟
يا هدهد البين
جئْ بالعرش معذرة
جرحُ القصيدة موجوعٌ وإن كذبا
مذْ أوّل الـــنّـــوء
كــان المـــوجُ يـــغمرني
فكّرتُ في العوْدِ..
ما أوجدتُ لي دربا
لَمْ أفلقِ البحر..
ــــ لكن تلك معــــجزتي ــــ
في جوفِ حوتٍ
نزعتُ الطّمْيَ والحُجُبا
لمحتُ فيَّ خيـــــالا كـــنــــتُ أحُـــدســـــــه
فبــتّ أقــــفو غزالا مـــــن دمــــي وثــــبــــا
حــدّثته وارتمــتْ في كُحله لغــــتي
لكنّه من سجوف النّطق قد هـربا
فَهَفَّ قلبي لِأَبني في الرّؤى سكنـــــا
وكــان زادي من الأحلام قــد نُهبـــــــا
***
في مَسمع الكون طار الشّــــدو بامرأة
وطـار قــــلبي إليــــها في المدى ســـربـــا
حلّقتِ بي في سماء الــــوَجْدِ مسرعـــةً
والدّهر ينسج من أشواقنـــــــــا سَبَـــبـــــا
وكنتُ فيـــكِ بذورا ســـوف يُـــدركـــها
من سار خلفيَ في حَقْلِ الهوى رَغَــــــبا
إن تعزفي الآن..
روحي في أعــــنّـــتـــــــها
وموج حالِيَ
في بحر الهوى اضطربـا
في جَمـــرَةِ اللّحنِ للأوتـــــــارِ ذاكرة
تروحنُ العُمْرَ والأحلام لـحنَ صَبَـــا
“جرحُ الكمنجات” معراج وأقـبـيــة
وما الحروف سوى
ما كان منتسبا..
للبَوحِ..
لكنّ بي في الصّمت مكرمة
تأبَى الـلّــغــات إذا حدّثـــتـــها عـــجـــبـــا
يَـدَّاورُ الــوقتُ منْ تلْقـــــائـــــه دِولٌ
أأترك القلبَ مفتوحا لمن سغبـــا؟
سَرَدْتُ ذاتي..
وسَرْدُ الذّاتِ مجْمَرَةٌ
..ظَلَلتُ أمشي مع الأيّام مُــــلتهبـــــــــا
أوْغَلتُ فيَّ فبــــتُّ اللّيلَ أسألني
عجبتُ مِنْ أمرٍ مَنْ
عَنْ ذاته اغتربا
وكنتُ أنفُثُ كـلّي في قِرَى جسدٍ
وكلُّ قَوْلٍ بذي الأبيات ما حـدِبا
بيني وبينك ظلّ السرّ مستــــترا
من أول الخلق للأسباب منتسبا
قانونُ جذبٍ له في الهجر فلسفـةٌ
…يغدو الذي من نَأى في البعد مقتربا
والآن أمضي غريبا صوبَ أغـــنيتي
ونُوتَــــةُ الرّوحِ قد عتَّـــقــتــهــا عــنــبــا
ليلِي مقــيــم وليــــــل الغيــــر مـنعدم
من عانق الرّوح موجود وإن ذهبا