التحول بالنظم السياسية نحو التغييّر، لا يمكن ان نعتبره من الاصلاح السياسي الذي تنشده العديد من شعوب المنطقة الاوسطية، وبالتالي فالصواب باعتقادي إدارة هذا الملف والاستفادة من الظرف والواقع القائم لتحقيق الاصلاح الجذري والتغيير والنهوض على المستويين السياسي والاقتصادي- التنموي بما يلائم التحول الجديد الاقليمي الاوسطي الذي طابعه الاعتدال وبالتالي الانفتاح على المجتمع الدولي وفق التغيّرات والتحولات المشهودة.
لقد واجهنا في تجاربنا السياسية ان بعض القائمين على القرار فيها يحاولون نقل ما هو ناجح في الدول المتقدمة بشكل أعمى، دون أن يضعوا بحسبانهم اختلاف خصائص المجتمعات وطبيعة ثقافتها ومستوى تقدمها الحضاري، ويتم الرهان على نجاح النقل دون الاخذ بعين الاعتبار الفشل (في معظم الاحيان) وتصبح الشعوب ضحية للرهانات الخاسرة وتزداد بؤساً وخسارة، وليس تضحية من أجل مشروع له رؤية واضحة ومدروسة (الدولة المدنية الحديثة).
إن الأساس الفلسفي لمنهج التحليل الاجتماعي-السياسي، تشير الى أن العلاقات المتكاملة لا تُصبح أنظمةً حياتيةً فَعَّالَةً إلا إذا امتلكَ الإنسانُ القُدرةَ على صناعةِ الحَاضِرِ، وعدمِ الهُروبِ مِن الماضي.
ما شهدته المنطقة الاوسطية خلال العقد الفائت من أحداث هدفت الى التغيّير الجذري السياسي، يشير بما لا شك فيه الى انبثاق رؤى مختلفة للتغيير، أهمها أنه لن يحصل دون التركيز على العمل التوعوي والتنويري والثقافي للمواطنين الذين سيختارون النخبة السياسية بالعمل السلمي ونبذ العنف، والثانية ترى اعتماد اسلوب توعية النخب السياسية التشاركية ذات الكفاءة بعد فرزها، لتحسين وإصلاح مستوى عملها وإدارتها بما يعكس اداءها على مستقبل الشعب وأوضاعه العامة وتفصيلات حياته المعيشيّة والرفاهيّة.
للأسف، نرى نخبنا السياسية والثقافية والفكرية لا تعمل برؤية واضحة للمستقبل في معظم الاحيان، ولا تقدم حلولًا ناجعة سوى عبر الترقيع ومحاولة سد الثغرات دون الالتفات الى الثقب الاسود الذي يعتري السياسات المختلفة التي أضحت بحاجة الى تغيير جذري بمنظور مستقبلي حديث.
الصراع في المنطقة يزداد شراسة لتقاسم المصالح وفق السياسات الناعمة وعلى الاخص بعد انكماش القطب الواحد والتوجه نحو عالم متعدد الاقطاب ، بوصلته الاساسية اقتصادية وحواملها سياسية وأمنية وعسكرية وثقافية ، واهدافها المصالح المشتركة وروافعها توافقات واتفاقات اقليمية او عابرة للحدود تساهم في تشكيل هذه الاقطاب باستراتيجيات جديدة ، ولعل المشهد الحالي يتمحور نحو الاندماج الاقتصادي الإقليمي ، وعودة ديبلوماسية الغاز لتلعب دور هام في المنطقة مع مشروع طريق الحرير الصيني وحرية القرار ( الاستقلال الاستراتيجي ) ، مما يحتم على الدول الكبرى المضي قدماً في هذه المسارات لتحقيق الاستقرار والامن والسلام ، مع الاشارة الى أن الغنى بالموارد لبعض دول المنطقة قد يكون المحرك لجهود إنهاء النزاعات السياسية والصراعات المسلحة ولكنها بحاجة إلى التركيز على الديناميكيات السياسية لتسوية صراعات المنطقة.
هناك متغيّرات في قواعد اللعبة يجب مراقبتها عن قرب وفهمها بعمق بهدف القدرة على التعامل السليم معها، من هذا المبدأ يُعدّ بيان عمّان (وزراء خارجية السعودية ومصر والعراق والاردن وسورية 1 ايار / مايو 2023)، بكل المقاييس، قفزة نوعية في علاقات سورية العربية، ويمكن وصفه بأنه خارطة طريق لمعالم حلٍ شاملٍ للأزمة السورية انسانياً وأمنياً وسياسياً.
حظي الجانب الإنساني بمكانة كبيرة من الاهتمام، ووصف بأنّه الأولوية الأولى، على قاعدة “التعافي المبكر” من ذيول الأزمة وتداعيات الزلزال المدمّر، ولتسريع العودة الآمنة والطوعية للاجئين، ومعالجة المشكلات التي تواجه النازحين وحل مشكلة المفقودين والمختطفين والمغيبّين قسراً.
في البعد الأمني، توسع البيان في الحديث عن محاربة الإرهاب والجماعات الإرهابية، وتعهّد العرب بمساعدة الدولة السورية وأجهزتها على بسط سياداتها على حدودها ومعابرها وجميع أراضيها، وطالب بانسحاب “الجيوش غير المشروعة” من الأراضي السورية، وتضمن البيان الحرب على المخدرات، وقد تقرر إنشاء لجنتين، الأولى سورية – عراقية والأخرى أردنية – سورية، في غضون شهور، لتعقّب أماكن الإنتاج وطرق التهريب وملاحقة شبكاته وتعزيز التعاون الأمني على ضفتي الحدود بين سورية وجوارها.
في البعد السياسي، استذكر البيان الثوابت السورية والعربية لحلّ الأزمة السورية، المتمثلة بوحدة سورية وسيادتها واستقلالها وسلامة أراضيها، ووحدة شعبها والمصالحة بين جميع كياناته ومكوناته، وشجع على تسريع العملية السياسية وصولاً إلى حل سياسي شامل ينسجم مع القرار 2254 وقد حثّ على تحفيز عمل “اللجنة الدستورية” التي لم تحرز أي تقدم جوهري حتى الآن، بما يفتح الباب لمعالجة قضية كرد سورية وشمالها الشرقي.
من زاوية اخرى، نعتقد أن القمّة العربية المقبلة في جدّة 19 ايار / مايو 2023 تكاد تكون أهم من سابقاتها لأسباب عديدة أهمها طبيعة التحدّيات والصراعات والأزمات الحالية في المنطقة والعالم، بما فيها المتغيرات الحادّة التي تفرض على دولنا سياسات ومواقف مناسبة لهذه التغيّرات، وتأثيرات الحرب في السودان على الجوار وأمن البحر الأحمر، إضافة الى رغبة السعودية وقيادتها بنجاح هذه القمة عملاً لا قولاً.
يدخل وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان مهندس هذه القمّة ولديه إنجازات مهمّة (الاتفاق مع ايران، تحديد كميات النفط وانتاجه، هدنة اليمن وتبادل الاسرى، مؤشرات ايجابية لأداء الاقتصاد السعودي، توافق عربي واسع لإنجاح القمة، عملية الاجلاء الناجحة من السودان لرعايا دول عدة وعقد اجتماعات بين طرفي الصراع برعاية سعودية، اجتماع مستشاري الامن القومي الامريكي والاماراتي والهندي بشأن التكامل الاقليمي برعاية ولي العهد..) ساعياً بخطوات حثيثة إلى تصفير المشاكل الإقليمية بهدف خلق مناخ مؤاتٍ يكون فيه التقدّم الاقتصادي القائم على المشاركة الفعّالة والإيجابية لدول المنطقة وتحقيق استقرار أمنيّ إقليمي، ينعكس انتعاشاً إقليمياً يشكّل مجموعه تأثيراً عالمياً على مستوى قواعد العالم الجديد.
الأحداث الاقليمية تتسارع والخطوات التصالحية تنجلي وقاطرة التعاون والتكامل الاقليمي والعابر للحدود انطلقت ، وكل من يتخلف عنها لن يشارك في استقرار وازدهار المنطقة ، ويأتي في هذا السياق تبادل إعادة فتح السفارات وعمل البعثات الديبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وسورية المعلن عنه في 9 ايار / مايو 2023 وكذلك بين ايران والسعودية ، واجتماع وزراء خارجية تركيا وسورية وروسيا وايران ، في موسكو 10 مايو/ أيار 2023حيث من المقرر خلال الاجتماع تبادل وجهات النظر حول تطبيع العلاقات بين تركيا وسورية ومناقشة مكافحة الإرهاب والعملية السياسية والشؤون الإنسانية بما في ذلك العودة الطوعية والآمنة والكريمة للاجئين (حسب تصريح الخارجية التركية) وانسحاب الجيش التركي من جميع الاراضي السورية وفق تصريح الخارجية السورية .
وقد تلقّى الرئيس السوري بشار الأسد دعوة من الملك سلمان بن عبد العزيز للمشاركة في الدورة 32 لاجتماع مجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة في مدينة جدّة، وهو الحدث الابرز في حال قبول الدعوة والمشاركة بالقمة على رأس الوفد السوري.
وتجدر الاشارة هنا بناء على ما سبق، دعوة الادارة الامريكية والاتحاد الاوروبي لمراجعة سياساتهم تجاه سورية، والعمل الفوري على رفع العقوبات الاقتصادية الجائرة، لتتمكن ووفق مبدأ الخطوة مقابل خطوة التي اعتمدها المبعوث الاممي الى سورية غير بيدرسون وحظيت بموافقة المجتمع الدولي وبما ينسجم مع بيان عمان لتسهيل الحل السياسي والعمل الانساني. (من البديهي وجود عوامل عديدة تدخل في مثل هذه القرارات، ولكن تحرك جامعة الدول العربية هو جزء من اتجاه أوسع لا يمكن لواشنطن أن تتجاهله)
يُولد بعض الأفراد بإحساس فطري بالأخلاق والإنصاف والحث على التسامح الذي يعتبر هو المعيار للسلوك الأخلاقي الذي يتيح لنا التفاعل بإيجابية، بين غضب مذموم أو تحرر من ذلك الغضب، وتصفير الأزمات لنبدأ من جديد ونتعلم أن الاصرار على الخلاف والفرقة يعرضنا لأزمات أكبر.
نعيش اليوم في عالم متعدد الثقافات، مُحاط من خلفيات وثقافات مختلفة ويتطلب أن نفهم ظروف الآخرين من حولنا، بعيداً عن خطابات التزييف والكراهية والعنصرية، هكذا هي الحكمة عبر التاريخ خصوصاً عندما تتعلق حياتنا بمحطات مفصليّة صعبة، كالمرحلة الحالية التي تمر على منطقتنا والتي بمخاضها سينبثق فجر جديد.
وختاماً نستذكر الشاعر الكبير نزار قباني في رثاء عميد الادب العربي طه حسين قائلاً:
ارمِ نظارتيكَ ما أنتَ أعمى
إنما نحن جوقةُ العميانِ
والى لقاء آخر …
مهندس باسل كويفي
Discussion about this post