النّاقدة د.رباب سرحان تتمتّع بإحساس وذوق أدبيّ سليم وثقافة واسعة، تحلّل العمل الأدبيّ بموضوعيّة ونزاهة، وتتّصف بالحياديّة، تراعي ضميرها وتتحرّى العدل في أحكامها وتحليلاتها، تبتعد عن العاطفة والمؤثّرات الشّخصيّة وكلّ أنواع التّعصب.
من خلال تحليلها العميق توجّه الكاتب بلباقة إلى كلّ الثّغرات التي عليه أن يتجنّبها في أعماله القادمة.
كلّ التّحيّة والتّقدير للإنسانة والنّاقدة المثقّفة د. رباب سرحان.
أعيد نشر مقالتها: الصّدق الإبداعيّ في رواية “رحلة إلى ذات امرأة” لصباح بشير.
د. رباب سرحان:
“رحلة إلى ذات امرأة” هي التجربة الروائيّة الأولى للكاتبة صباح بشير، ممّا يدعونا إلى تناول هذا العمل الأدبيّ، بشيء من القلق والتوجّس والترقّب. فهذه التجربة الأولى، إمّا أن تبشّر بولادة روائيّ جديد يتلمّس طريقه إلى عالم الرواية في النور متسلّحًا بالأدوات الصحيحة، وإمّا أن تكون مجرّد إصدار جديد يُضاف إلى زحمة الإصدارات التي نشهدها على الساحة الأدبيّة.
“قلب عجوز باك”، “أحداث دراميّة”، “جرح”، “مخزون هائل من الذكريات”، بهذه الكلمات والتعابير التي تنثرها الكاتبة في الصفحات الأولى، تُدخلنا إلى أجواء رحلة بطلة روايتها وتشوّقنا لمعرفة تفاصيلها، هي رحلة موت وغربة ووحدة وإحباط، وفشل ونجاح وسقوط ونهوض. “رحلة إلى ذات امرأة” عنوان يختزل مضمون الرواية ويُشكّل خاتمتها.
إنّ قضيّة المرأة العربيّة، بصفة عامّة، والفلسطينيّة بصفة خاصّة، وما يلحقها من اضطهاد من قبل الرجل، ومن قبل المجتمع الذكوريّ برجاله ونسائه، هو ما يشغل اهتمام الكاتبة في هذه الرواية. إذ تنطلق فيها بأيديولوجيّة تؤمن بها، وتتحدّد في اقتناعها بأنّ وراء عذاب كلّ أنثى يقف ذكر أو المجتمع الذكوريّ كلّه. وعليه، فإنّ الرواية تقف على هذه الثنائيّة غير المتكافئة بين الأنثى والذكر. الأنثى المهزومة التي تندب حظّها العاثر والرجل المنتصر.
بناء على هذا، تنطلق الكاتبة من موقف واضح تعتبر فيه المرأة هي الضحيّة، والمجتمع الذكوريّ هو الظالم. وقد رسمت المسار الذي قطعته “حنان” بطلة روايتها لتكون الضحيّة المظلومة، ولتبرز مدى عمق الجرح وقسوة التجربة التي مرّت بها، إلى حدّ عدم قدرتها على نسيانها أو محوها من الذاكرة لشدّة ما حفرته من ندوب وشروخ في قلبها وروحها. فصوت الأمس ما يزال يتحرّش بذاكرتها رغمًا عنها، ويدفعها إلى رواية قصّتها واسترجاع رحلة المعاناة. فتعود بنا إلى أيّام الطفولة التي تصفها بالهانئة والسعيدة والهادئة، لتنقلب هذه السعادة، بعد مرور سنوات، إلى شقاء، وينقلب الهدوء إلى ضجيج لا ينفكّ يقرع رأسها، كانت نقطة التحوّل في حياة البطلة حين سُلِب منها حلمها في متابعة دراستها الجامعيّة بسبب اندلاع الانتفاضة وإغلاق الجامعات، وقد أبرزت الكاتبة هنا إسقاطات الوضع السياسيّ الخاصّ الذي يعيشه الشعب الفلسطينيّ، على الاجتماعيّ وعلى حياة الناس وأحلامهم ومصائرهم، وكيف تكون هذه الإسقاطات مدمّرة وقاتلة. فزواج حنان من عمر جاء تزامنًا مع هذه الأوضاع التي سرّعت حدوثه، وبدأت معه رحلة معاناتها ودمارها النفسيّ والاجتماعيّ، رضيت حنان بالزواج من عمر الذي لا تعرفه ولا تربطها به أيّة عاطفة، وهي التي كانت تحلم، كأيّ فتاة، بقصّة حبّ مشبعة بالشوق واللهفة. تقول: “حافظتُ على هدوئي إذعانًا لأمّي، وأمام شدّة الضغوط رضخت مستسلمة للزواج من عمر. هكذا في صمت وتردّد، بين الحياء والجهل، تُركت أواجه قدري”. كانت حنان مدركة تمامًا لخطورة الخطوة المصيريّة التي تُقدم عليها، إلّا أنّها كانت أضعف من أن ترفض. تقول: “إحساس غامض كان يلفّني، شعرت أنّني أخطئ بحقّ نفسي. فهل حقًّا تسرّعت؟ ولم كلّ هذا الضعف والاستسلام؟”، “لماذا أشعر بكلّ هذا الجبن والخجل؟”، “هكذا يربّون الإناث على الحياء والخضوع”، “جبنت واستحييت، ولم أقوَ على المواجهة قطّ”. فبكت وتضرّعت وشعرت أنّها تريد أن تصرخ وأن تشتم، ولكن لا شيء.
رسمت الكاتبة في روايتها صورة قاتمة لبيت الزوجيّة، هذا البيت الذي طالما حلمت به الفتاة الشرقيّة وتاقت إلى دخوله وتهافتت عليه، ولكن، سرعان ما ترى فيه الجحيم بعينه ما أن تدخله، فتبدأ العمل على محاربته والتمرّد عليه بطرق مختلفة. وكم يكون وضع المرأة أصعب إذا زُوّجت كحنان بطلة الرواية من الرجل الذي لا تعرف ولم تُحبّ وإنّما فُرض عليها، فحنان زُوّجت من رجل لا يرى في الزوجة إلّا أداة تعمل ما يريد ويفرض عليها، وحين حاولت التململ وإسماع اعتراضها ورفع صوتها وإعلان رفضها وتمرّدها، وجدت كلّ من يحيط بها من رجال ونساء يذكّرها بقواعد الدين والعادات والتقاليد والمفاهيم الاجتماعيّة التي تفرض على المرأة أن تكون تابعة لزوجها، تخدمه وتُسعده. والكاتبة، بتصويرها لمؤسّسة الزواج بهذه الصورة السلبيّة، لا تقف ضدّ هذه المؤسّسة، ولا ضدّ تعاليم الدين الإسلاميّ، إذ لا بدّ من التأكيد في هذا السّياق، على أنّ الإسلام رغّب في الزواج وحثّ عليه في القرآن الكريم وفي أحاديث الرسول، لما وراءه من أهداف، وما يُحقّقه من مقاصد في الحياة الإنسانيّة، وإنّما هي تقف ضدّ الرجل الشرقيّ الذي يعتبر الزواج أداة ذكوريّة ووسيلة بطريركيّة يُظهر بواسطتها استعلاءه على المرأة ويؤكّد ملكيّته لها، فهي تؤمن، كما بطلتها، أنّ مؤسّسة الزواج يجب أن تقوم على الودّ والحبّ والتفاهم والاحترام والثقة، وتجربة الزواج الفاشلة التي خاضتها حنان، لم تضعضع إيمانها هذا ولا أملها في وجود رجل يحترم هذه الأسس ويدرك أهميّتها، والدليل أنّها كرّرت التجربة من رجل أحبّها وأحبّته، واختبرت معه كلّ المشاعر الجميلة التي طالما رسمتها في مخيّلتها. تقول: “فما ذلك السرّ الغامض الذي يشعرنا بالبهجة والانجذاب لشخص ما دون غيره؟ وما ذلك الانشراح الذي يعلو على القلب حين تتلاقى الأرواح مستأنسة؟ فتتآلف متناغمة في طباعها وتكوينها النفسيّ. تلتقي لتمسح ألم خيبات كثيرة عاشتها وتجرّعت مرارتها. تجتمع متشابهة لتفرّ إلى عالم السكينة، هاربة من كلّ شيء وإلى كلّ شيء”. ص 220
اهتمّت الكاتبة عبر صفحات الرواية أن تبرز الظلم الواقع على المرأة من قِبل الرجل والمجتمع الذكوريّ، هذا الظلم الذي يصل حدّ القتل والحرق. فالأب الذي يحرق ابنته في ساحة الحيّ ليرضي قِيَم مجتمعه، كما فعل والد أسماء بحجّة شرف العائلة، يجعل المرأة لا تجد اختلافًا بين ظلم الرجل وظلم المحتلّ الغريب. بل ترى بأنّ اضطهادها من قبل الرجل أكثر ثقلًا من قمع الغريب. وعليه، تُعرض الشخصيّات في الرواية وتتحدّد علاقاتها وتتمحور حول القضيّة الأساسيّة بالنسبة لها وهي: قضيّة كون المرأة ضحيّة وكون الرجل جلّادها وظالمها ويمارس في حقّها كلّ الأساليب التي توفّر له الانتصار عليها واستحواذها، فنراها تعرض لقضيّة التمييز بين الذكر والأنثى وازدواجيّة المعيار الأخلاقيّ، كما تأتي بنماذج نسائيّة مختلفة، فأمّ حنان مثلًا هي نموذج للمرأة النمطيّة أو التقليديّة المتمسّكة بالموروث الاجتماعيّ أكثر من الأب نفسه، “فالخروج من البيت مسموح للضرورة فقط، واللعب في ساحة الحيّ ممنوع”، “فشرف البنت مثل عود الثقاب”، “وسمعة الأب النظيفة تحافظ عليها ابنته الشريفة”، و”أسماء” هي نموذج للمرأة العربيّة المطلّقة التي تلاحقها الأعين المراقِبة والمحاسِبة والظالِمة، فالطلاق في المجتمعات العربيّة هو ذنب المرأة دائمًا وهي المسؤولة الوحيدة عن حدوثه، فهي الآثمة وهي الخائنة وهي التي تستحقّ القتل حفاظًا على شرف العائلة، وإذا ظنّت المرأة أنّها بطلاقها تحرّرت من زوجها ومن كلّ الضرر والأذى الذي سبّبه لها، فهي مخطئة، لأنّ الرجل العربيّ، في كثير من الأحيان، لا يترك طليقته في حالها ولا ينفكّ يلاحقها ويشوّه سمعتها باختلاق الأكاذيب وتلفيق التّهم، تمامًا كما فعل عمر- زوج حنان الذي نجح في الإساءة إلى سمعتها ممّا أدّى إلى طردها من العمل.
صورة المرأة العانس حاضرة كذلك في الرواية وتتلخّص نظرة المجتمع إليها في قول سميّة: “نحن الفتيات نعاني عقدة العمر. لا نحبّ أن نُسأل عنه لما يترتّب على ذلك السؤال من تحليل وثرثرة. فالفتاة “عانس” في نظر الناس إن لم تتزوّج، يصبح عدم زواجها قضيّة رأي عام تثرثر بها الأفواه”. وقد نبّهت الكاتبة من خلال شخصيّة “غادة” أخت حنان، إلى أنّ هذا الوضع الاجتماعيّ حين يقع على من هنّ ضعيفات النفوس وضيّقات الفكر، قد يقودهن إلى الشعور بالحقد والنقمة على الناس والحياة وعلى أقرب الناس إليهن. فقد ذهبت غادة في حقدها وغيرتها إلى حدّ التحالف مع عمر وتشويه سمعة أختها. تقول حنان: “كنت دائمًا أفترض أن تكون الأخت حافظة الأسرار وموضع الثقة ورفيقة الدرب”، “أما غادة فقد أعمتها الغيرة فنسيت أنّ تلك التي تمارس عليها الظلم هي أختها”.
هكذا، وُضعت المرأة في حالات كثيرة في قفص الاتّهام وموضع الشكّ وتحت المراقبة الذكوريّة، لتجد نفسها مقهورة وغريبة، لا علاقة لها بكلّ ما يحيط بها.
كلّ هذا عبّرت عنه الكاتبة بضمير المتكلّم الذي سلّطت من خلاله الضوء على الراوية “حنان” وكشفت عن همومها وعذابها وأوجاعها ودواخل ذاتها، إلى الحدّ الذي جعلنا نشعر أنّنا أمام سيرة ذاتيّة تقوم على البوح والاستذكار والاعتراف. ونظرًا إلى أنّ الرواية ليست سيرة ذاتيّة، إلّا أنّنا ننطلق من إيماننا بقول ميشال بوتور إنّ “الروائي يبني شخوصه، شاء أم أبى، علم ذلك أم جهل، انطلاقًا من عناصر مأخوذة من حياته الخاصّة، وأنّ أبطاله ما هم إلّا أقنعة يروي من ورائها قصّته، ويحلم من خلالها بنفسه”. ويؤكّد حنّا مينة هذا الرأي بقوله: “إنّ أيّة شخصيّة روائيّة هي المؤلّف وغيره، هي الشخص وغيره، وهي موجودة وغير موجودة في آن”. وعليه، فقد شكّل توظيف ضمير المتكلّم في الرواية وسيلة لنشر آراء الكاتبة ومواقفها بشكل يتماثل فيه وعي الشخصيّة الأدبيّة- حنان وثقافتها، مع وعي الكاتبة وثقافتها، ومَن يقرأ الرواية يلاحظ هذا التفاعل الواعي أثناء كتابتها يرافقه وجع داخليّ، فصباح بشير حاضرة، في مواضع كثيرة في الرواية، بانفعالاتها وبمواقفها اللائمة والمستاءة والمعترِضة والمحتجّة على أحكام المجتمع: فتقول مثلًا-على لسان حنان:
“تبًّا لمجتمعات لا تحافظ على كرامة أبنائها، أشعر أنّ كلّ شيء حولي فقد بريقه، أمارس الصلابة والقوّة بينما ينهش العجز ما تبقّى من الأمل في قلبي، ولأنّني امرأة، مطلوب منّي أن أبرّر أيّ محاولة لممارسة الحياة”. “البعض يظنّ أنّ الكفاح والمقاومة يكمن فقط في حمل السلاح، كم هو ساذج هذا التفكير! فكثيرون وكثيرات حملوا سلاحا من نوع آخر، سلاح مقاومة الفقر والاستغلال لكسب لقمة العيش بشرف وأمانة”. “كيف يمكن إثبات جريمة الاغتصاب الزوجيّ كغيرها من الجرائم؟ كيف يمكن ذلك وهي تُرتكب في غرف النوم المغلقة واللحظات الخاصّة؟”. “فهل تجعلنا المسافات البعيدة أجمل في عيون البعض؟ وهل الغياب يرقّق القلوب ويطهّر النفوس من الحقد؟ أم أنّ القرب هو الذي يظهر فينا كلّ ما يمكن أن يخفيه الغياب؟ لا أدري”. “هل تحبّني يا عمر؟ نعم.. أحبّك. فقلت في نفسي: “حبّك برص””.
أسلوب آخر بارز في الرواية هو الوصف. جاء في معظمه متداخلًا مع السرد وساهم في رصد صُور الظلم والاضطهاد والخوف الذي يقع على المرأة- حنان التي عمدت الكاتبة إلى وصف أدقّ التفاصيل في مسيرتها الحياتيّة، لتُظهر امتداد خطّ المعاناة من بداية الرحلة إلى نهايتها. بالمقابل، نشهد في مواضع كثيرة، وصفًا تنعكس فيه حركة الحياة ونبضها واستمرارها: “حركة في كلّ مكان، أناس يروحون ويجيئون، ذاهبون إلى أعمالهم ومصالحهم بهمّة ونشاط، شعرت بنبضهم ووقع خطاهم على الطريق”. وقوّة الشعب الفلسطينيّ الذي لا يستسلم بعد مشهد استشهاد خالد: “في المساء كانت الأضواء الصغيرة تلوح خلف شبابيك الحيّ وبيوته متحدّية كلّ الحواجز التي أقامها الغرباء”. ووصفها الجميل لأبناء القدس: “فأبناء القدس مزهوّون بعزّة النفس والانتماء. يرسمون سياستهم الخاصة بهم عبر صمودهم وتلاحمهم وحبّهم لمدينتهم، يبرعون في صناعة الحياة، يشكّلونها بصياغة جديدة مدهشة مبهرة في الجوهر والعمق، يحيكون منها نسيجًا جميلًا من الأمل والصبر”.
أمّا اللّغة فقد كان لها الدور الهامّ في تقريب القارئ إلى الرواية، فهي واضحة، منسابة، جميلة وفي بعض المواضع ساحرة، خاصّة في الوصف.
وبعد، نجحت الكاتبة في رسم نموذج نسويّ هو ضحيّة شروط ومفاهيم أسريّة واجتماعيّة وسياسيّة جائرة، حين أخذتنا في رحلة إلى ذات البطلة وسبرت أغوارها وكشفت عن أوجاعها الداخليّة. هذه المرأة مرّت بسلسلة من الإحباطات والخيبات، ولكنّها في كلّ مرّة كانت تنهض من جديد وتتابع حياتها مُستمِدَّة القوّة من ابنتها التي لا تريد لها حياة كحياتها.
حرصت الكاتبة على تصوير البطلة ضمن المشهد الواقعيّ الذي يتقبّله ذهن القارئ ويجعله يستحضره بسهولة وسلاسة، فلم تبالغ في وصف تمرّدها بشكل يُخرجها من دائرة الواقعيّة، بل جَعَلَتْنا شاهدين على السيرورة نحو التمرّد ونحو التغيير، وكيف تحوّلت من امرأة جبانة وخائفة إلى امرأة جريئة وقويّة، ولكن بعد أن دفعت الثمن وانطفأت روحها وغابت مظاهر البهجة والفرح عن حياتها مرّات كثيرة، حنان هي امرأة متمرّدة متردّدة، وليست متمرّدة مهاجِمة وثائرة، فما زالت تحسب حسابًا للأهل والمجتمع وفي هذا واقعيّة كبيرة وصدق كبير، إذ لزمها سنوات حتى تتمرّد بحدّة وترفض وتخرج على التقاليد والعادات والمفاهيم الاجتماعيّة والدينيّة، وتذهب في رفضها إلى ترك البيت والبلد والوطن واختيار السكن في بلد أوروبيّ متحرّر لتُعيد هناك إنتاج ذاتها الإنسانيّة.
ما يُحسب للرواية أنّ الكاتبة طرحت وضعًا نسويًّا تعاملت معه تعاملًا يرقى إلى مستوى الهمّ، إذ لم تكتف بنقل معاناة المرأة بتفاصيلها الدقيقة، بل اهتمّت بالكشف عن العوامل المختلفة التي آلت بها إلى هذا الوضع ومعالجة مشكلاتها من الجذور، والعمل على إيجاد حلول لها. وعليه، لم ينحصر دورها ككاتبة في كونها ناقلة لواقع المرأة الأليم فحسب، وإنّما ساعية إلى تغييره.
وأخيرًا، نجحت صباح بشير في كتابة رواية مُستوفِية لشروط نجاحها وخصائص قدرتها على إحداث التفاعل بين القارئ والنصّ، ولا ندّعي هنا بأنّها رواية كاملة متكاملة، فقد كنت أحبّذ مثلًا لو حذفت الكاتبة سطورًا من بعض الحوارات التي دارت بين الشخصيّات، ولو التفتت أكثر إلى الجانب الفنيّ الجماليّ، إلّا أنّنا نرى في الوقت ذاته، أنّ هذه الرواية تُشكّل أساسًا قويًّا لتجارب روائيّة مستقبليّة نشهد فيها تطوّرًا طبيعيًّا وصقلًا للقدرة الإبداعيّة الكامنة لدى الكاتبة، فقد أبدعت صباح بشير في كتابة رواية مشدودة في حبكتها وفي رابطتها العضويّة القويّة التي جعلت منها بناء متماسكًا عبر أسلوبها السرديّ القادر، ضمن مبناه ومعناه، على إثارة الحافز وعلى خلق هذا الترابط العاطفيّ القويّ بين القارئ والشخصيّة الروائيّة.
الرواية ناجحة بوضوحها وسلاستها وبرسمها للواقع الذي تعيشه المرأة الفلسطينيّة، والأهمّ بصدقها. فالمبدع الحقيقيّ هو الذي يستطيع أن يعبّر بصدق عن التجربة الإنسانيّة وعن الهمّ الإنسانيّ. وصباح بشير، بتورّطها في الرواية، أقنعت القارئ أنّ روايتها هذه هي شعور قبل أن تكون رغبة في الكتابة، فأصبح فعل الكتابة مُلحًّا وضروريًّا.
تنتهي الرواية من حيث بدأت، من على شرفة منزل بطلة الرواية في القدس، وهو مشهد هامّ، إذ لم نجد هناك امرأة جريحة، منهزمة، منكسرة وذليلة، بل قويّة، متّزنة، متفائلة ومستمرّة في الحياة. وفي هذا تكمن قوّة هذه المرأة وتميّزها، لم تستسلم للحزن وللظلم، ولم يضعفها الجرح، وإنّما بقي إيمانها قويًّا بأنّ الحياة مستمرّة، وأنّها ربّما تخبّئ لها شيئًا جميلًا سيُسعد قلبها ويُبهج روحها.