“إشكالية الأقليات في الرواية العربية”، مقال جديد في القدس العربي، لندن، 14 يونيو 2023، ومرفق أدناه رابط المقال على موقع الجريدة.
إشكالية الأقليات في الرواية العربية
د. مصطفى عطية جمعة
التمسك بالهوية العربية لا يعني إهمال هويات أخرى، تعيش بين ظهرانينا، ممثلة في الأقليات غير العربية، مثل الأكراد، والأمازيغ، والنوبيين، فهؤلاء نعتز بتنوعهم الثقافي، وتميزهم اللغوي، وإن كان الكثير منهم يتكلمون ويكتبون ويبدعون باللغة العربية، وقد تناولت روايات عربية عديدة مشكلاتهم وقضاياهم، وأيضا ثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، التي لا تبتعد كثيرا عن الهوية الثقافية العربية، على أساس أن الإسلام يشكل قاسما مشتركا بين الثقافة العربية وثقافة الأقليات، وفي هذا الصدد، لا نؤمن بكل المحاولات التي جرت من أجل طمس هويتهم اللغوية، وإذابتها في القومية العربية، وإعمال مفهوم الهيمنة الثقافية للثقافة العربية، كونها ثقافة رئيسة على ثقافات الأقليات بوصفها ثقافة فرعية أو ثانوية، فلا داعي لما سماه لويس كافيلي حرب اللغات، بمعنى الصراع الذي يفضي إلى سيطرة لغة، وإزاحة أخرى بما يهدد الأخيرة بالانقراض، نتيجة عدم الاستعمال والتداول، خصوصا حينما ترتبط اللغة بالعرق، وعندما يتاح للغات الأقليات كتابة الإبداع والعلوم بها، ما يسمح لها بأن تكون حافظة للتراث، وناقلة للمعارف والأفكار.
جدير بالذكر أن الاجتهاد الفقهي الإسلامي المعاصر – كما يذكر الشيخ عبدالله بن بيه- يلتقي مع منظور حقوق الإنسان للأقليات، ويدعو إلى الاعتراف بثقافة الأقلية، ورفض انعزالها عن محيط المجتمعات الكبرى التي تعيش فيها، ويدعو إلى اندماجها في المجتمعات على قاعدة التعايش والتعارف، كما يدعو المجتمعات العربية إلى التفاعل الإيجابي والانفتاح على واقع الأقليات على أسس القيم المشتركة، والاعتراف بثقافتها ولغاتها. فلا بأس بكتابة هذه الأقليات لآدابها بلغاتها، ويمكن ترجمة الإبداعات إلى العربية إليها، وإن كانت العربية هي اللغة الأولى لهذه الأقليات التي تعيش في المجتمعات العربية. والمثال على ذلك الأدب الكردي الذي ينهض برهانا على إمكانية ردف الرواية العربية برافد فرعي مواز، يمكن- مع تفعيل منهجيات الأدب المقارن- معرفة آثار الثقافة العربية والإسلامية فيه، وأيضا أوجه التشابه والتلاقي في القضايا الإنسانية، خاصة أن الأكراد يعيشون في أكثر من قطر عربي، فمن المعلوم أن الشعب الكردي موزع بين أربع دول: العراق وسوريا، وتركيا وإيران؛ بفعل التقسيم الاستعماري بعد سقوط الدولة العثمانية، عقب اتفاقيتي سايكس بيكو1916، وسان ريمو 1920، وقد تمزقت الدول العربية وفق الأطماع الاستعمارية، وللأكراد إسهامات حضارية وثقافية وسياسية بارزة تاريخيا وحديثا.
بناء على ما تقدم، فإن الهوية الجمعية العربية لا تلغي التنوع الثقافي والسكاني والاجتماعي بين شعوب العالم العربي، وهو أمر يصب في صالح الأدب العربي عامة، والروائي منه خاصة، فقد عكست الرواية العربية هذا التنوع، وبات كل قطر عربي، أو إقليم عربي له رواياته المعبرة عن خصائص شعبه الثقافية والاجتماعية والجغرافية والفكرية، وهذا لا يضاد خصوصية الرواية العربية، وإنما يضيف لها أنها رواية مصاغة بالعربية لغة، وتعبر عن جموع الشعوب العربية والأقليات التي تعيش في كنفها، ويعتزون جميعا بالثقافة العربية، بوصفها ثقافة رئيسية، تحتوي ـ ولا تنفي- الثقافات الفرعية، وتعتز بكل الاختلافات والتنوعات على المستوى الإنساني والبيئي. ويكون السؤال: كيف تكون الرواية العربية محققة للكونية/ العالمية وفضائها الإنساني؟
إنه سؤال يتصل بالهوية وعلاقتها بالرواية، وتتفرع من هذا السؤال أسئلة عديدة؛ هل يتم ذلك عن طريق مناقشة القضايا الإنسانية العالمية؟ أم يكون عن طريق المحلي؟ أم عن طريقهما معا؟ وفي أي أشكال أو تقنيات يمكنها تحقيق ذلك؟
ومكمن الجدل في هذا السؤال، أن الكثيرين يعتقدون أننا إذا فارقنا محلّيتنا، وقمنا بكتابة روايات عن المشكلات العالمية، وأبرز القضايا الفكرية التي تهم المجتمعات الإنسانية؛ فإننا بذلك نصل للعالمية، بدلا من الإغراق في المحلية. وبالفعل هناك روائيون يضعون أعينهم على الغرب وحركة الفكر والفلسفة في العالم، بل يتعمدون أن تكون رواياتهم في بيئة اجتماعية متعولمة، مدّعين أن الحضارة الحديثة في عصر العولمة، انتفت فيها خصوصيات المكان والإنسان، وأضحت المدن والعمارة الحديثة متشابهة في الشوارع والبنايات والوظائف والهموم والآلام، وكذلك في الطعام والملابس ونمط الحياة ونوعية الأفلام التي نشاهدها. وهذا الكلام يتبناه بعض أنصار العولمة، الذين يرون أن هذه سيرورة تسير فيها البشرية، بحكم ثورة الاتصالات وسهولة المواصلات، وتراجع الدولة القومية، وصعود التدفقات العالمية بمختلف أشكالها، ما أوجد حياة نمطية الإنسان، خاصة مع سهولة تدفق التجارة والسلع، وتشابه الأذواق الاستهلاكية وتقارب الثقافات. بلا شك فإن وجهة النظر هذه لها نصيب من الواقع، لكنها ليست كل الواقع، فخصوصية الإنسان والبيئة والثقافة والأديان والعادات والتقاليد، وأيضا الاتجاه المضاد لتيار العولمة، الذي يرى أنها ليست تقاربا إنسانيا، وإنما سعي لأمركة العالم، واستمرار في سياسة نشر التغريب Westernization، وأن العولمة ما هي إلا موجة أخرى للتمدد الغربي، وقد سبقتها من قبل نزعة الأوربة Europeanization، وكلها مصطلحات وثيقة الصلة بالإمبريالية والكولونيالية الغربية، وتتغاضى عن عمد عن الاختلافات داخل الغرب وداخل الثقافة الأمريكية ذاتها، فالغرب ليس كلا واحدا، وهناك تباينات في الثقافات الغربية، كما هو الحال في الاختلافات الثقافية والفكرية بين الثقافة الإنكليزية والثقافة الفرانكفونية، والثقافة الألمانية، وأيضا ثقافات الشعوب الأوروبية صغيرة العدد، والمتمسكة بلغاتها وهويتها القومية، مثل إيطاليا والدول الإسكندنافية وإسبانيا والبرتغال. والأمر نفسه مع الثقافة الأمريكية، لأن أمريكا من الداخل خليط من الثقافات الأوروبية، بالنظر إلى أنها كانت مقصدا لمهاجري أوروبا، بجانب عشرات الثقافات النابعة من الجنسيات والأعراق المختلفة التي هاجرت واستقرت وتجنست بالجنسية الأمريكية، ونطقت بلغتها، لكنها لا تزال متمسكة بجذورها، ربما تكون هناك ثقافة غالبة في المجتمع الأمريكي أو الأوروبي، لكنها لا تلغي ولا تقصي التحيزات الثقافية، سواء لدى الشعوب الأصلية، أو لدى المهاجرين والمتجنسين، والدليل قائم أمامنا، من خلال اليمين العنصري في أمريكا وأوروبا، والذي صعد بقوة خلال العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، مستدعيا إرثا ثقافيا غربيا يعود إلى قناعات مترسخة منذ الحقبة الاستعمارية وما قبلها.
وبالتالي، فإن صيغة الأمركة، والأوربة، هي صيغة تعميمية تنميطية، ترتبط بالاقتصاد المعولم، والتجارة السلعية، والإعلام، أكثر مما هي في الواقع، بل إنها قابلة للتغير، لأن وسائل الاتصال متاحة لكل من امتلك المال والقدرة والمنافسة، وعلينا التعبير بكل أريحية وانتماء بخصوصيتنا الثقافية العربية، بكل ثقافتها المحلية، وأيضا ثقافة الأقليات التي تعيش بين الشعوب العربية.