للوهلة الاولى ، من قراءتنا للأحداث السياسية والعسكرية والأمنية في العالم ، وانعكاسها على اقتصاديات وثقافة المجتمعات والدول عام 2023 , نلاحظ ونشاهد متغيّرات عميقة وسريعة ، أفقياً وشاقولياً في العلاقات الدولية والجيوسيّاسية على مختلف أرجاء كوكبنا ، منه ما هو ايجابي وينحو باتجاه الانسانية واستمرار الحياة بمزيد من الرفاهة للبشر ، ومنها ما هو سلبي وينُم عن خرقٍ للقانون الدولي ومنظومة حقوق الانسان تنحو نحو إبادة جماعية وجرائم حرب تتوجب المحاسبة ، هذا من حيث الشكل ، أما في الموضوع ، فقد تداخلت وتشابكت بعض الملفات مثل طريق الحرير الصيني وما قابله من الممر الهندي – الشرق أوسطي – الاوروبي ، ايران والتهديد القادم من حدودها الشمالية الغربية – جنوب القوقاز ، الشرق الاوسط وحل الدولتين ، الحرب في غزة والتهديد بتوسيع دائرة الحرب في المنطقة ، السودان ودوامة الحرب الاهلية فيها ، الانقلابات في العديد من دول افريقيا وانحسار النفوذ الفرنسي ، اثيوبيا وسد النهضة وصراع المياه ، عودة التوتر بين الكوريتين وكذلك بين والمغرب والجزائر ، الصراع الساخن بين اذربيجان وارمينيا ، ركود في الاقتصاد العالمي بشكل عام والاوروبي بشكل خاص ، خفض ميزانيات المنظمات الدولية وعلى الأخص برنامج الأغذية العالمي WFP ومفوضية اللاجئين UNHCR وهي مؤشرات متعددة الأوجه …
ولكن المشهد من زاوية اخرى ، يكتسب أهمية جديرة بالتفاؤل ، فقد جرت تسويات كبيرة لملفات هامة وحساسة في المنطقة والعالم ؛ مثل الاتفاق السعودي – الايراني ، عودة سورية الى الجامعة العربية ومنظماتها ، مؤتمرات هامة ومتعددة في المملكة العربية السعودية جمعت دول المنطقة والعالم تحت عدة عناوين ، مؤتمر المناخ في الامارات العربية المتحدة ( cop 28 ) ، مبادرات جديّة لوقف الحرب الروسية – الاوكرانية ، انفراجات بسيطة في العلاقات الامريكية – الصينية ، اليمن وانبثاق الحلول نحو السلام والاستقرار ، ليبيا والهدنة المؤقتة ، الرغبة العالمية الجامحة لإصلاح النظام الدولي …
في نفس الوقت ، تتجلى الصعوبات الأقليمية والدولية بتجاوز الخلافات فيما بينها ، بانعكاسات مباشرة لتحديات حقيقية على المستويات الوطنية المحلية ، مما يتطلب تعبئة وحشد الجهود والقدرات والكفاءات الوطنية نحو إعادة بناء الدول وتحديثها ، بأولويات واضحة وديموقراطية صريحة ومواطنة شفافة وقرارات حكيمة وقوانين مُحكمة تقوم على حسن التخطيط وكفاءة الإعداد وتستند الى مبادئ وأحكام الدستور العصري المتوافق عليه في كل دولة ومسار تطبيقه .
إن معظم مطالب الشعوب في العالم ، هي العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الانسانية ، وبالتالي فاستمرار الدول وتحديثها ، يمر عبر تنفيذ نظام الحكم فيها رغبة ومطالب مواطنيه الحقّة ، وعندها تتمتع الدول بالاستقرار والسلام وتسمو بركائز الحكم الرشيد ،
الذي يعتمد التنمية المستدامة المتوازنة أولوية رئيسية ، والانتخابات المحلية الحقيقية ضرورة تنموية ، وحرية الفكر والتعبير عنصر أساسي للارتقاء بهما نحو إحياء القوة الناعمة الوطنية ( المجتمع المدني والفنون ..) ، التي تساهم بمجملها في بناء الثقة والتشاركية بكافة مناحيها ، وتعزز الوحدة الوطنية والريادة الإقليمية والمكانة الدولية .
في الطرف المقابل ، عكست مرايا غزة الكاشفة عن انحياز الغرب وأزماته الاخلاقية والانسانية .
مع إصرار إسرائيلَ على تصفيةِ المقاومة وإعلانها أنَّها ماضيةٌ في هدفها، بغضِّ النظرِ عن الاعتراضاتِ الدولية ، ومصيرِ رهائنها، واحتمال توسّع الحربِ باحتمالات واسعة ومحفوفة بالمخاطر على الأمن والسلام الدولي ، ( الممر الملاحي في البحر الأحمر أضحى جبهة جديدة .. ) وتواتر في سلاسل التوريد والتجارة العالمية .
مع معاناة انسانية لاحدود لها ، لنساء وأطفال وأهالي غزة ، لم تنتهي مع كل الانتهاكات والتشّرد والقتل الوحشيّ .
معظم الباحثين والمحللين السياسييّن ينظرون الى اليوم التالي في غزة ( ترتيبات ما بعد طوفان الأقصى ) ، حيث يُشكل ” محور فيلادلفيا” الخط الحدودي الفاصل بين إسرائيل و مصر ، السر الغامض القادم ، بقبول التهجير أم منعه .. وسط تساؤلات عديدة حول استعداد مصر لتحمل مسؤولية إدارة قطاع غزة أو المشاركة فى إدارته ، وثانيها التفاوض حول حل الدولتين .. ، ومناقشة للممكن فعلياً على أرض الصراع دون مبالغات كلامية أو أيديولوجية .
على أن الاحتمال الأكبر الذي سنشهده قريباً وفق قواعد فك الاشتباك وتعزيز الامن والسلام ، هو تغيّر مواقف وتفضيلات الأغلبية الحاكمة فى إسرائيل يمكّن قوى يمين الوسط أو اليسار من إدارة الحكومة ، وبالتالي الانفتاح تدريجياً على عملية تفاوضية جدّية وحقيقية مع الفلسطينيين وتهدئة أو هدنة واسعة مع حماس والفصائل وكذلك مع سورية ولبنان ، حيث تكمن سياسات فن الممكن .
باعتقادي ، ومن وجهة نظر شخصية ان اندلاع حرب اقليمية واسعة يصب في مصلحة إسرائيل في هذا الوقت ، حيث تسعى الى ابتزاز دول المنطقة بعد المواقف الدولية المنحازة لمصلحتها ، بل من مصلحة نتنياهو شخصياً استفزازها ، لأن طريق نجاة نتنياهو الوحيد هو ببساطة حرب إقليمية!
في النهاية؛ قد نختلف على سياسات حكومية محلية واقليمية ودولية، لكنني على ثقة كاملة فيما يخص موضوع المواجهة والحفاظ على الأرض وطرد المحتل منها ، على الأخص إذا كان الخصم هو إسرائيل التي لم تمتثل للقوانين الدولية والقرارات الأممية (قرار مجلس الامن الدولي 242 لاعادة الاراضي العربية المحتلة ) والمبادرة العربية في قمة بيروت ، وكلي يقين بعدم التفريط أو التخاذل عند الضرورة ، وأعتقد أن القرار نابع من طبيعة الشخصية السورية وما هو مستقر في وجدان الشعب السوري خصوصاً والعربي عموماً .
علينا المقارنة دوماً بين تأثير الاسباب الخارجية والاوضاع الداخلية لتحديد المقاربة المناسبة و البوصلة الآمنة للدول والشعوب ، وتحديد الاستراتيجات السياسية والاقتصادية والامنية والاجتماعية والثقافية التي تتناسب مع المتغيرات الدولية والاقليمية الجيوسياسية العميقة ، والاستفادة منها في النهوض والتحديث والتغيير .. لتكون البوابة المرنة التي تتدفق من خلالها أموال المشاريع الإغاثية والاستثمارية والتنموية.
بانتظار أن تعرف الحروب أهدافها وتضع أوزارها ؟؟
تتبين لنا الحقائق التالية :
– التفوق الأخلاقي للغرب عموماً ، وإسرائيل خصوصاً مضى إلى غير رجعة ، حيث تنعكس سلبياً ازدواجية المعايير الغربية والأمريكية على نحو خاص .
– تعاني أمريكا ، ومعها اوروبا ، والعالم بشكل عام ، أزمة قيادة واضحة المعالم ، حيث تحول الساسة في هذه الدول إلى مدراء تنفيذيين، وذلك نتيجة منح الأولوية للعبة السياسية الداخلية التي تحكمها مراكز قوى مختلفة ( اللوبي .. ) على حساب السياسة الخارجية ، وبذلك تحول قادة الغرب الى مدراء بدلاً من زعماء يصنعون التاريخ ، ويحددون مسارات المستقبل .
-فى غياب حرية التعبير ، فى غياب احزاب سياسية قوية ، فى غياب مجتمع مدني مستقل ، فى غياب اعلام حر ؛ فى غياب العدالة وتداول السلطات ، في ازدواجية المعايير القانونية والحقوقية الدولية في دعم الاستقرار والسلام ، لا بُدّ من إعادة التوازن الى النظام العالمي الجديد وفق المنظومة الانسانية والاخلاقية التي من شأنها الحفاظ على البشرية والحياة .
وليس من المستبعد أن تكون غزة في فلسطين ، والحرب الروسية – الاوكرانية هي المفاصل التاريخية التي ستؤرخ انهيار الأحادية القطبية، وانطلاق نظام عالمي جديد بمعايير تشاركية ..
وتطوير مفهوم جديد للأمن القومي للدول وحدود المجال الحيوي لها ، ومشاركتها في تعزيز الأمن والسلام المستدام على كوكبنا .
ختاماً ؛ مشكلتنا مع انفسنا عميقة وحزينة … لذلك يجب أن تسبق مواجهتنا مع الغير ..
كل عام وانتم بخير بمناسبة السنة الميلادية 2024 الجديدة ، التي نتمنى ان تكون سنة الاستقرار والتنمية والسلام على العالم كله .
مهندس باسل كويفي .. .
Discussion about this post