دراسة تحليلية ونقدية لقصيدة (أرباب المنافي) للشاعر سامر الشيباني.
بقلم الكاتب والباحث علي محمد العبيدي
قفي قبل الرحيل
لأعيركِ أغنية
ضعيها بين يديكِ
إسمعيها كلما اشتقت لي
قبّليها كلما رأيتِ نهرا
والبسيها
في كل سهرة قلادة
تصنع الأحلام لأرباب المنافي
وتوقد الليل لعشاق الشِعر والحانات
قلّبي أوراقي الذابلة برفق
وتحسَّسي بيت آهاتي
على كل غصن من أغصاني
ينزف عصفور
وفي كل لحن من ألحاني
وتر مبتور
في كل شارع من شوارعي
رصيف مهجور
وتر ورصيف وعصفور
وقلب عطش
لا ينبض إلا بمائكِ الفضفاض
إمنحي شفتيَّ قبل الرحيل
صوتاً دافئاً
إمنحيني رقصة
نعلوا بها فوق الغيوم
ندخل المرايا بثياب من نجوم
شذّبيني
واقتطعي الزوائد عني
واتركيني أطير
أطير إلى كل ضوء يشبهكِ.
الشاعر سامر الشيباني شاعر عراقي متميز يجود نصوصه التي يكتبها من خلال الصور الفنية ورسم الخيال الذي يعزز به النص معتمدا على أسلوب موسيقي يسير بنسق منتظم من بداية النص وحتى ختامه .
وتظهر هذه البصمة بوضوح في جميع نصوصه النثرية تقريبا ، وسرعان ما يتبين القارئ هذه البصمة من خلال تأمله ومعايشته النص الذي يطلع عليه .
ونبدأ مع عنوان هذا النص ( أرباب المنافي) والذي اختاره الشاعر بعناية فائقة بأسلوب بلاغي دقيق ، ونحن نعرف أن رب الشيء هو مالكة والمتصرف فيه ولكن الشاعر استطاع أن يربط بين هاتين الكلمتين المستقلتين ويجعل منهما هذه العبارة باقامة رابطة جمعت بين المنافي ومن نُفي إليها .
وهذه الروابط والعلاقات بين الكلمات تمكن الشاعر من استثارة احاسيس ومشاعر القاريء إلى معنى جديد غير موجود في كل مفردة مستقلة ولكن برز المعنى الجديد بعد أن تصرف الشاعر بعملية الجمع لكي يحصل على معنى مستقل عن المعاني الجزئية للكلمات المفردة الموجودة في النص وهذا ما سنلاحظه في جميع مراحل النص.
ويأتي مطلع النص بصيغة الأمر (قفي) ليشد القارئ إلى استطلاع ما بعد الأمر بالوقوف والانتظار ، ليقول بعدها (لاعيرك) والإعارة هي إعطاء الشئ على سبيل الإعادة بعد وقت معين، وفيها دليل على استمرار علاقة المودة والتواصل المستمر ، وهذا ما نلاحظه في مراحل النص التالية في قوله
(ضعيها بين يديكِ)
(إسمعيها كلما اشتقت لي)
(قبّليها كلما رأيتِ نهرا)
(والبسيها )
(في كل سهرة قلادة)
ثم أعطى لكل حالة من حالات التواصل والمودة التي ذكرها صورة معينة تعبر عن موقف ودلالة زمانية أو مكانية أو حسية أو معنوية. وهذا ما يظهر واضحا في (يديك) في دلالة على الملموس. و(السمع) و (الشوق) و (القبلة) و (النهر) و (التقلد) و (السهرة).
ثم ينتقل الشاعر الى صور تثير الحزن والشفقة ويصور من خلالها تقلبات الزمن وما يفعله به مستعينا بالمحبوب وطالبا منه تحسس احواله في صور ومواطن متعددة بنفس الأساليب السابقة التي تحدثنا عنها في كيفية صياغة تراكيب العبارات وإظهار صور جديدة تعبر بدقة عن المشاعر والأحاسيس التي تعتريه في مثل هذه الأحوال وهذا ما نفهمه من خلال سياق العبارات التي أوردها في النص والتي تصور كل حالة تصويرا فنيا دقيقا بصيغة بلاغية لطيفة وواضحة في الاسلوب البياني البديع الذي يغني عن التعليق أو التحليل
(وتحسَّسي بيت آهاتي)
(على كل غصن من أغصاني)
(ينزف عصفور)
(وفي كل لحن من ألحاني)
(وتر مبتور)
(في كل شارع من شوارعي)
(رصيف مهجور)
(وتر ورصيف وعصفور)
(وقلب عطش (
(لا ينبض إلا بمائكِ الفضفاض)
ثم ينتقل الشاعر الى صيغة الطلب وبطريقة التعاطف والمحبة واحتواء كل واحد منهما لمشاعر الآخر بطريقة فنية جميلة تعبر عن عمق المودة وما تكنه القلوب من الحب الذي يتخطى الحدود وهذا ما نستشفه من خلال صور القُبل والرقص فوق الغيوم ودخول المرايا بثياب جميلة وكانت هذه الصورة الخيالية التي بالغ الشاعر في صياغتها غاية في الابداع والتسامي بين العشاق ليعكس من خلالها عمق أواصر الحب والتضحية واختصر فيها كل ما قاله في النص وهذا دليل على قدرة الشاعر في ضبط النص واعطاء كل صورة من صورة دلالتها المستقلة للتعبير عن الموقف الذي مر به زمانيا ومكانيا.
ثم يختم الشاعر بطريقة جميلة ومثيرة لاعجاب المتلقي وتبعث الأمل في النفوس بقوله:
(شذّبيني
واقتطعي الزوائد عني
واتركيني أطير
أطير إلى كل ضوء يشبهكِ).
لقد أجاد الشاعر في كل مراحل النص وضبط إيقاع العبارات وأسلوب صياغتها الموحد بطريقة تشعر المتلقي بأن الاستعارات والأساليب البيانية المستخدمة في النص سارت بطريقة منتظمة كما أراد لها الشاعر أن تسير لذلك ترى التناسق الواضح في صياغة التراكيب وسلاسة تواليها على حسب الغرض المقصود.
علي محمد العبيدي
15/6/2023