لَقِيَتْ ظاهرةُ الحضورِ والغيابِ اهتماماً بالغَ الأثرِ منذُ مطلع العصر الحديث، حتّى غدَتْ مثارَ جدلٍ في الأوساط الأدبيّةِ- النّقديّةِ، ولاسيّما من قبل الباحثين والدّارسين والنّقّاد، وذلك في محاولةٍ منهم لتأصيلِ المصطلحِ انطلاقاً من الموروث حيناً، أو بتبنّي اتّجاهاتٍ غربيّة في النّقد تتّخذ من النّظريات الفلسفيّة ركيزةً يستندون إليها في مجمل الأحيان؛ ومن ثمّ دراسةِ مدى تجلّيه في المنجز الأدبيّ على اختلاف أجناسه، ولاسيّما المنجَز الحداثويّ منه..!.
وعبر تلكَ المحاولات التي قاموا بها نلاحظ- ومن دونِ أدنى شكٍّ- دورانَهُم في فلكٍ واحدٍ؛ لاعتمادِهم في الأغلبِ الأعمِّ على من سبقَهُم من دونِ تجديدٍ يذكرُ، بل نجدهم قد كرّسوا القديم وتناقلوهُ، حتّى إنّنا لَنكادُ نجزمُ أنَّ دراسة ظاهرةِ الحضور والغياب باتتْ من المستَسهلِ في التّناولِ في النّقدِ الأدبيّ، فكثُرَتِ الدّراسات والأبحاثُ المنجزةُ، حتّى وصلتْ تلك الكثرة إلى مكانٍ وصل معه النّقدُ فكراً إلى مرحلةٍ من الجمودِ والتّقعّرِ تدعو للرّيبةِ والتّساؤلِ..!.
ونزعمُ أنّ تلكَ المحاولات لتأصيل المصطلح كانت في مجملها من باب العبث النّقديّ، أو كما يطلق عليه الباحث والنّاقد الدكتور كمال أبو ديب[1]: (التّرقيع) وذلك في معرض حديثه عن غايته وطموحه من كتابه: (جدليّة الخفاء والتّجلّي دراسات بنيويّة في الشّعر) إذْ يقول: “فإنَّ طموح هذا الكتاب ثوريٌّ تأسيسيٌّ، وفي الآن نفسه رفضيٌّ نقضيٌّ. لأنّ الزّمن لم يعد زمن القبول بالرّقع الصغيرةِ التي أسميناها خلال مائة عامٍ (منجزات عصر النّهضةِ العربيّةِ) ولأنّ الفكر العربيّ بعد مائة عامٍ من التّخبّط والتّماسِ والبحث والانتكاس، ما يزال- في أحواله العادية- فكراً ترقيعيّاً، وفي أفضل أحواله فكراً توفيقيّاً- حيث لا يهدّد التّوفيق بنية الثّقافة القديمة، لكنّه يظلُّ فكراً نافياً حيث يهدّد حتّى التّوفيق بنية هذه الثّقافة. ولأنّ الفكر العربيّ ما يزال عاجزاً عن إدراك الجدليّة التي تشدُّ المكوّنات الأساسيّة للثقافة والمجتمع”[2].
وعليه فقد كَثُرَتْ تفسيرات الحضور والغياب وفق المفهوم الاصطلاحيّ، التي ورغمَ تعدّدها إلّا أنّها- وفي نهاية المطاف- تلتقي لتقاربَ المصطلح، وتبرزَ أهمَّ ملامحِهِ، وإنْ كانَتْ في مجملِها قد اتَّكأت على ما أطلقهُ: (أفلوطين)[3] و(محيي الدّين بن عربي)[4] في تفسير مفهوم الحضور، وعلى آراء (الجرجانيّ)[5] و(المتصوّفة)[6] في تفسير مفهومِ الغياب، والتي كانت وما تزال تنحو منحىً فلسفيّاً في التّفسير..!.
إنَّ الانطلاقَ من التّراث في تفسير المفاهيمِ وتأصيل المصطلحاتِ، أمرٌ تعترضُهُ الكثير من الإشكاليّات، ربّما يعود ذلكَ للآلية المتّبعة في التّناول، والتي نجدها تفتقد الدّيناميكيّة في كثيرٍ من الأحيان، أو في جدليّة مفهوم الحضور والغياب- نفسه-، وما تحيل إليه كظاهرةٍ شعريّةٍ حالها كحال الظواهر الشّعريّة الأخرى التي لا تخلو وفق ما نزعم من الإشكاليّات في مرجعيّة مقولاتِها..!.
وعليه فإنّ الانشغال بتأصيلِ المصطلح لأيّ ظاهرةٍ في المنجز الأدبيّ، كان- وما يزال- هاجس الأعمّ الأغلب من الباحثين والدّارسين والنّقّاد، ولاسيّما في محاولاتهم للتّأصيل من خلالِ الرّجوع إلى التّراث النّقدي، ذلك التّأصيل الذي نرى فيه ما رآه الباحث الدكتور جابر عصفور[7] في كتابه: (مفهوم الشّعر دراسة في التّراث النّقديّ)، إذْ يرى أنّ: “ثمّة فرقٌ- بالتّأكيد- بينَ من يعود إلى الماضي ليثبتَ أو يؤكّد وضعاً متخلّفاً في الحاضر، ومن يعود إلى الماضي ليؤصّل وضعاً جديداً قد يطوّر الحاضر نفسه، وينفي ما فيه من تخلّفٍ. وتأصيل الجديد يعني أنْ (نقتله علماً)، لنعرف أصله الذي جاء منه، وأصولنا التي يمكن أن تتقبّله، وتدعمه، وبمثل ذلكَ يؤصّل الجديد، أيْ يصبح له أصلٌ، ويتحوّل إلى قوّةٍ مؤثّرةٍ كلَّ التّأثير، بعد أنْ وجدت أصلاً تضرب بجذورِها الفتيّة فيه”[8].
فمصطلح الحضور والغياب مصطلحٌ رغمَ ما لهُ من أصولٍ في التراث النّقديّ العربيّ من حيث التّناول اللفظيّ، لكنّه مصطلحٌ فلسفيٌّ حديثٌ مولَّدٌ تمَّ إسقاطُه على العمل الأدبيّ، ولا نرى- فيما نراه وقد نُخالفُ في ذلك- أنّه يلتقي مع المفهوم الاصطلاحيّ المتداول- كما يرى آخرون-؛ فظاهرة الحضور والغياب ودراستها في المنجز الأدبيّ القديم والحديث، لا تعدو أنْ تكون إلّا تطبيقاً لنظريّاتٍ فلسفيّةٍ غربيّةٍ، نشأت وتأصّلت وتطوّرت على أيدي فلاسفةٍ وعلماء اجتماعٍ غربيّين، وليست تلك الظاهرة من موروثنا في صيغتها التي وصلت إليه في شيءٍ، بل وحتّى في المناهج النّقديّة التي تنطلق منها تنظيراً وتطبيقاً وما إلى ذلك..!.
إذاً.. لماذا هذا التّهافت والإقبال غير المسبوق من جانب الباحثين والدّارسين والنّقاد في تناول ظاهرة الحضور والغياب من حيث المفهوم والمصطلح، وربطها بالتّراث- الموروث- النّقديّ العربيّ، من دون درايةٍ أو حتّى اطّلاعٍ كافٍ..؟!.
فمنذُ أنْ أقرّ ابن منظور في لسانِ العرب معاني الحضور[9] والغياب[10] لغويّاً، اتّكأ على تلك المعاني جميع مَنْ تناول ثنائية الحضور والغياب في دراساتِهم، وتوقّفَ المفهوم في اللغة عند هذا المعنى- بالنسبةِ للباحثين والدّارسين والنّقاد ولاسيّما في مرحلة الحداثة وما بعدها- من دون محاولةِ الرّجوع إلى لسان العرب بحثاً عن مرادفٍ قد يكون أكثر مقاربةً من النّاحية التطبيقيّة لمفهوم الحضور والغياب[11]..!.
بل ومن غريب الأمور إيراد شاهدٍ ومناقشته وفقَ ما يلبّي رؤية البحث رغمَ وضوح موضع الشّاهد، ليثبت من خلالها باحثٌ ما: أنَّ مصطلح الحضور والغياب ظهر جليّاً في النّقد العربيّ القديم، وأنّ مفهومَ العرب القدامى لجدليّة الحضور والغياب في الشّعر يلتقي مع الفهم الحديث..!.
ذلكَ الشّاهد المبثوث في مجمل تلك الدّراسات التي تناولت الحضور والغياب، والذي أورده الجاحظ في كتابِهِ البيان والتّبينِ- في معرض الحديث عن السّجع-: “وقيلَ لعبدِ الصّمدِ بن الفضل بن عيسى الرّقاشيِّ: لِمَ تُؤْثِرُ السّجعَ على المنثورِ، وتُلزِمُ نفسَكَ القوافي وإقامة الوزنِ؟ قال: إنَّ كلامي لو كنْتُ لا آملُ فيهِ إلّا سماعَ الشّاهدِ لقلَّ خلافي عليكَ، ولكنّي أريدُ الغائِبَ والحاضِرَ، والرّاهنَ والغائِرَ، فالحفظُ إليهِ أسرعُ، والآذانُ لسماعِهِ أنشطُ؛ وهو أحقُّ بالتّقييدِ وبقلّةِ التّفلُّتِ، وما تكلّمَتْ بهِ العربُ من جيّدِ المنثُورِ أكثر ممّا تكلّمَتْ به من جيّدِ الموزون، فلم يُحفظْ من المنثورِ عُشْرُهُ، ولا ضاعَ من الموزونِ عُشْرُهُ”[12].
حيث يرى الباحث الدكتور حسين خمري[13] في كتابهِ: (الظاهرة الشّعرية العربيّة الحضور والغياب)، وفي معرض تناولهِ لذات الشّاهد- تعليقاً- أنّ هذا الشّاهد يمثّل: “مفهومَ العرب القدامى لجدليّة الحضور والغياب في الشّعر وهو فهمٌ متميّزٌ لكنّه في خطوطِهِ العامّةِ يلتقي مع الفهم الحديث لهذهِ الثنائيّة…”[14]!!.
ويضيف: “وهذا الفهمُ التّراثيّ لقضية الحضور والغياب في الشّعر يكاد يقترب من المفهوم العامّ للشّعر الذي ينفرد بآلاتٍ شكليّةٍ ليس للنّثر فيها حظٌّ ومن هنا يسهل حفظُهُ وتداولهُ ويحافظ بذلكَ على حضورٍ دائمٍ لأنّه يحاول القبض على الحاضرِ والرّاهن..”[15]..!!.
واضحٌ- هنا، في النَّصِّ الثّاني المقبوسِ- خلافاً للنّصّ الأوّل- انتباه الدكتور حسين خمري لموضع الشّاهد وتفسيره وفق القصد الحقيقيّ منه.. فلماذا يورده في كتابه على أنّه شاهدٌ يثبت تناول النقد العربيّ القديم لثنائية الحضور والغياب وفق المفهوم الحديث، أو لنقل كما قال في النّصِّ الأوّل المقبوس، وللأسف تكاد لا تخلو دراسة نقديّة من وجه الاستشهاد آنف الذّكر إلى أنْ غدا- وذلك جليٌّ- ثابتاً من ثوابت ظاهرة الحضور والغياب..!.
وقد تابعه في ذلك كثيرٌ من الباحثين والدّارسين والنّقاد، منهم الباحث الدكتور محيي الدّين المسدّيّ الذي يرى أنَّ في الشّاهد الذي أورده الجاحظ-: “إشارةٌ إلى أنَّ العملَ الأدبيّ يقومُ على وجودِ حاضرٍ وغائِبٍ حينَ إبداعِهِ.. وأنَّ العملَ الأدبيّ عامّةً والعملَ الموزونَ المقفّى خاصّةً ينبني على علاقاتٍ حاضرةٍ وغائبةٍ، وإشاراتٍ زمانيّةٍ راهنةٍ أو غابرةٍ، وأنَّ هذا ممّا يعطي العملَ الأدبيّ جمالَهُ وجودَتَهُ”[16]..!!.
واضحٌ- هنا، في النَّصِّ المقبوسِ عدم التفات الدكتور محيي الدّين المسدّيّ للقصد الحقيقيّ لشاهد الجاحظ، وانتزاعه من الشّاهد ما يلبّي حاجته البحثيّة؛ ليثبت تناول النّقد العربيّ القديم لمفهوم الحضور والغياب، بل ذهب أبعد ممّا ذهب إليه الدكتور حسين خمري..!!.
ومهما يكن من أمرٍ، فإنْ كان توظيف الشاهد من قبل الباحِثَيْنِ؛ لإثبات تناول مصطلح الحضور والغياب في النّقد العربيّ القديم بمعزلٍ عن مفهومه في العصر الحديث- فيما يخصُّ ظاهرة الحضور والغياب- لكان ذلك مباحاً ولا تثريب على أيّ باحثٍ إنْ كان تناوله وفق ما أشرنا إليه..
ولكنّ الخلاف- الذي نزعمه هنا- يرتبط في المقام الأول بتناقل الباحثين والدّارسين والنّقّاد لهذا الشّاهد، من جهةٍ، وتوظيفه- الشّاهد- لإثبات أصلٍ لوافدٍ على النّقد العربيّ من حيث المصطلح والمفهوم، حتى غدا من المسلّمات في معظم الأبحاث والدّراسات التي تناولت ثنائية الحضور والغياب حتّى وقتٍ قريبٍ..!.
إنّ ما نطرحه ينطبق على العديد من الظّواهر الأدبيّة في النّقّد، ولاسيّما تلك التي انطلقتْ في شكلها ومضمونها من آراءٍ وأفكارٍ فلسفيّةٍ استعارها الباحثون والدّارسون والنّقّاد العرب متأثّرين -لا مؤثّرين- بمقابلهم من الباحثين والدّارسين والنّقاد الأجانب، ومن ثمَّ إسقاطِهم لتلكَ الآراء والأفكار على المنجز الأدبيّ- العربيّ- من دون مراعاة خصوصيّته فكراً وثقافةً في كثيرٍ من الأحيان..!.
المصادر والمراجع
- البيان والتّبيين: الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر- تحقيق: عبد السلام هارون- مكتبة الخانجي- القاهرة، مصر- ط7- 1998م.
- جدليّة الخفاء والتّجلّي: كمال أبو ديب- دار العلم للملايين- بيروت- ط3- 1984م.
- الظاهرة الشعرية العربية الحضور والغياب: الدكتور حسين خمري- اتحاد الكتاب العرب- دمشق- ط1- 2001م.
- علاقات الحضور والغياب في شعر الفرزدق: الدكتور محيي الدّين المسدّيّ- أطروحة لنيل درجة الماجستير بإشراف الدكتورة سمر الدّيوب- جامعة البعث، سورية- غير منشورة- 2012م.
- لسان العرب: جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور الإفريقي المصري- دار صادر- بيروت- ط1- مج 4- من دون تاريخ.
- مفهوم الشّعر دراسة في التّراث النّقديّ: الدكتور جابر عصفور- الهيئة المصرية العامة للكتاب- ط5- 1995م.
[1] باحثٌ وناقدٌ وأكاديميٌّ سوريٌّ.
[2] جدليّة الخفاء والتّجلّي دراسات بنيويّة في الشّعر: الدكتور كمال أبو ديب- ص8-9.
[3] أحد الفلاسفة القدماء في اليونان.
[4] أحد أشهر المتَصَوِّفين، لقَّبَهُ أتباعُهُ وغيرهم من الصُّوفيّين بـ: (الشّيخِ الأكبر).
[5] نَحْويٌّ ومُتَكَلِّمٌ، يُعَدُّ مؤسس علم البلاغة.
[6] المعتنقون لمذهب الصّوفيّة، وهو مذهبٌ إسلاميّ، لكنّه ووفق الرؤية الصّوفيّة ليس مذهباً.
[7] كاتبٌ ومفكّرٌ وباحثٌ وأكاديميٌّ مصريٌّ.
[8] مفهوم الشّعر دراسة في التّراث النّقديّ: الدكتور جابر عصفور- ص9.
[9] انظرْ: لسان العرب- جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور الإفريقي المصري- مج 4- ص196-197.
[10] انظرْ: جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور الإفريقي المصري: المصدر نفسه- مج 1- ص654.
[11] من الملفتِ في معظمِ تلك الدّراساتِ التي قمنا بالاطلاع عليها، تناقُلُ الباحثين والدّارسين والنّقّاد لمادّتي (حَضَرَ) و(غَيَبَ) ولكنْ بشكلٍ مجتزأٍ، مقتضَبٍ وبتطابقٍ شبهَ تامٍّ، وأنّ أحداً منهم، لم يكلّف نفسهُ عناءَ البحث؛ لإيجاد معنىً لغويٍّ أكثر مقاربةً كمادّتي: (ظَهَرَ) و(ضَمَرَ)..! انظرْ: لسان العرب- جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور الإفريقي المصري- مج 4- مادّة: (ظَهَرَ)- ص520، ومادّة: (ضَمَرَ) مج 1- ص491-492.
[12] البيان والتّبيين: الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر- تحقيق: عبد السلام هارون- مج1- ص287.
[13] باحثٌ وناقدٌ وأكاديميٌّ جزائريٌّ.
[14] الظاهرة الشّعريّة العربيّة الحضور والغياب: الدكتور حسين خمري- ص16.
[15] الدكتور حسين خمري: المرجع نفسه- ص16.
[16] علاقات الحضور والغياب في شعر الفرزدق: الدكتور محيي الدّين المسدّيّ- ص31-32.