_______________
“لا لن تُغلّ قصائدي،
لا لن تموتْ؛
ما دامت الأكواخ تفترش المدى،
والكون من حولي صموتْ،
والنهر يحضن ما تبقى من ظلالٍ خلف أروقة السكوت،
والعاشقان هناك: حنجرتي وأعتاب البيوتْ.”
(هذيان الحطب – ص 60)
أجل لن “يموت الشعر” طالما وجد فنان، أو فنانة تسعى إلى بناء عالمها الجمالي بلغة جذابة، وأسلوب يحمل بصمتها المميزة، تزركشه رموز نابعة من ذاكرة غنية لا تهمل الموروث المضيء، ولا تقفز على الحاضر الأليم، وعيناها ترنوان إلى غد تخشى على إنسانها من ظلاله الغامضة، فتهب صوتها إلى كلّ من يقاوم الاحتلال، والظلم والاضطهاد، لعل صهيل وجع الغرباء، وأشواك تحدي المنفى، وهلع الهذيان يوقظ ذلك الإنسان الحرّ، الذي تتابع شاعرتنا مهمة البحث عنه، فأصدرت عبر هذا البحث ستة دواوين، هي:
1 – شوك السنابل– دار نيرفانا – دمشق 2020
2 – هذيان الحطب – دار نيرفانا – دمشق 2020
4 – لتلك الوجوه أصلي – اتحاد الكتاب العرب – دمشق – 2021
3 – مزامير الوجع – الهيئة العامة السورية للكتاب – وزارة الثقافة 2022
5 – للغرباء والمنفى – دار السرد للطباعة والنشر والتوزيع – بغداد – 2022
6 – بوابات الهلع – نص درامي – اتحاد الكتاب العرب بدمشق بالتعاون مع دار نشر اقرأ –2023
إنّها الشاعرة ريم البياتي (يسرى رجب مصطفى) من مواليد بلدة الصفصافة في محافظة طرطوس، أنهت الثانوية العامة، ودرست سنوات في كلية الحقوق بجامعة دمشق في ظروف قاهرة، ثم أبدعت في جامعات الحياة والثقافة والأدب… عضو جمعية الشعر في اتحاد الكتاب العرب، شاركت في عدد من مهرجانات الشعر العربية، ونشرت عدداً من الدراسات والأبحاث الأدبية في منابر عربية متنوعة، في محاولة لكي تترك أثراً، أو ينبوعاً يزيد الحياة خصوبة، ويحي كلّ من ينهل من غيثه ذكراها:
“والماء ينسج من مآقي النبع تاريخاً
ويهزأ بالحديدْ
لو تعلمين كم المياه يخافها زرد الحديدْ
وكم النوافذ تحتفي بالريح
لكنّ المقابض لا تريدْ
وكم الدنان يلفّها عتمٌ
ليختال النبيذ بفجر عيدْ”
(مزامير الوجع. ص91)
تتألق الصور وتستمد قوتها التعبيرية في قصائد شاعرتنا بفضل أسلوبها المتميز في استعمال الرموز لتزين تلك الصور ويزداد القارئ ثقة بصدق تعابيرها، لتصوغ نصاً متناسقاً ومنسجماً مع الحياة، فنرى أنفسنا بين كلماتها، نتحدث إلى أشخاصها، ونحلم معهم، ونشعر بشجونهم، ونتألم لآلامهم:
“كانت بغداد تعدّ (الكيمر)،
والكرخي يبيع (الكاهي) للغرباء،
وأهل الله هنالك يبتاعون شواهدهم،
يا إسماعيل،
أتعرف أين يقيم النقاشون؟
كلّ الأسماء على أضرحة عباد الله بلا شفةٍ
من يحفظ أسماء العشاق
وأين يخبئ حبر الآتي الوّراقون؟
يا اسماعيل،
تضيع دروب القلب، إذا ضاعت
أسماء العشاق ومات الوّراقون.
(للغرباء والمنفى – ص51)
الموسيقا تزين قصائد شاعرتنا، وتخفف من ثقل الهموم التي تثقل ذهن الشاعرة والقارئ معاً، فيجدان في اللحن والمقاطع الجديرة أن تُغنى ملاذاً يريح ذهنيهما، وتتفتح بارقة أمل تداعب موسيقاها العذبة ذهن المتلقي والشاعرة معاً:
“ما همني…
لو دارت الدنيا على كعبٍ،
وغار الحلم في فجر اغترابي.
نسبي… سليل خرافةٍ،
وأنا رضيعة مسقطات الحمل
قبلة عاشق
سقطت على (قيٍع ( سراب.
(للغرباء والمنفى – ص33 – قيع اسم مكان ورد في القرآن الكريم كسراب بقيع، وتصرفت الشاعرة بالاسم للضرورة الشعرية)
الرمز عنصر مميز لا تكاد تخلو قصيدة في أغلب دواوين شاعرتنا من حضوره، كأنّ حالة التصحر، وندرة الإنسان الحقيقي السائدة تدعوها لاستحضار آلهة الأزمان الغابرة المحفورة في ذاكرتها لتعينها في تحمّل تبعات هذه المأساة:
“أيكون الراعد ( انليل) قد نام طويلا ذاك العام
أم (ننهو) تطارد (عشتاروت)
وتختصمان لأجل إله؟
في العشق مباح أن تقتتل الرّبات
مباحٌ أن يتناسل من صلب المتعة
( أكرونوس)
ويلتهم الأبناء”.
(للغرباء والمنفى – ص88)
قصائد شاعرتنا مفعمة بهموم أبناء شعبها، وبأحاسيسها الإنسانية النبيلة، وعواطفها الصادقة في دفاعها عن الإنسان المظلوم، ورأفتها بالضحايا والمضطهدين:
“عندما تخبو القناديل القديمة،
ينشر الخفّاش جنحيه على حدق النهار؛
فخذوا من ملح هذي الأرض
زيتاً وفتيلا
لقناديل الصغار”
(لتلك الوجوه أصلي. ص84)
وفي ظلم المرأة، وأهمية حمايتها من كلّ شرّ، تروي شاعرتنا قصصاً شعرية بليغة، ترتقي دلالتها العميقة إلى مستوى العالمية، فوجدتني أترجم عدداً من تلك القصائد إلى اللغة الروسية… وأزعم أنّ كثيراً من قصائد الشاعرة “ريم البياتي” تستحق أن تكون ديواناً في قصيدة؛ منها على سبيل المثال “بدر العراق”، و”برق وشناشيل”، و”يا صديقي”، و”ميراث الإياب” و”أزهار هندكوش الأفغانية”، وغيرها:
“الجبل الساكن
تخرج من شفتيه ورود
تتوسد صدر السفح…
تطلّ على أبواب بيوت البشتون
حيث درجن…
بنات الحزن الصامت
يمشين على كعب الأزهار،
يسرن حذار العشق
ويقطعن
أوداج الصوت بشفرة حزٍن.
….
فلتبك اليوم نساء الكون؛
لعلّ الدمعَ يصير بحاراً
تغسل قهر بنات الأفغان،
وحزن العربيات؛
لعل الدمع يصير سحاباً،
يمطر
فوق رماد القهر
وينبت زهراً فوق قبور الموؤدات”.
(للغرباء والمنفى – أزهار هندكوش – ص97-100)
وثمة قصائد وحدها جديرة أن تخلد اسم شاعرتنا، فكثيرة قصائدها التي تجذب القارئ ليعيد قراءتها مرات ومرات، وفي كل مرة يراها أجمل، وتجعل الحياة أجمل، على الرغم من ثقل هموم الحياة الضاغطة…
“هذه الأرض بلادي… فدعوها؛
كلّ ما فيها صبور:
زرقة الأمواج،
جذر السنديان
بؤبؤ العينين،
أوكار النسور،
أصدقاء الصمت… أطفالي… وأرقام القبور،
حجر الصّوان… أمشاط الصبايا
ورجال تُلبس الموت قميصاً للنشور.
(شوك السنابل – ص7)
قرأت سفر “بوابات الهلع” أكثر من مرّة، وفي كلّ مرة أتهيب الكتابة عنه؛ إذ أنني أجد نفسي أمام موضوع إنساني قاسٍ وأصيل، كتب بأسلوب متميز، ممزوج بمشاعر وأحاسيس، وإجهاد أعصاب، وفيض إنساني عميق مفعم بالتوترات النفسية المرهقة، يهيب بالقارئ أن يوقظ أحاسيسه، ويتساءل عمّا يدفع الإنسان إلى تلك الهاوية الظلماء، وذاك الحضيض السحيق:
“خرق، أثواب تبهج ناظرها، والبعض عراة
إنهم صورة ذاك الكون البائس، لكن قلوبهم بيض، ينتظرون
ويلهون ببراءتهم،
يفتحون أعينهم دهشة من هول ما أحدث الكبار؛
إنهم الضمير، الذي سيظل يصرخ ويقض مضاجع الجناة،
يراقبون والقضاة يستقبلون العابرين، و ينزعون أقنعة الدنيا عن
وجه الإنسان ليظهر كما هو عاريا…”
تلك هي عتبة النشيد الثالث من النص الدرامي “بوابات الهلع”، الذي تستدعي كل فقرة فيه وقفة هادئة، وتمعناً عميقاً…
رأيت منذ قراءتي الأولى لأعمال شاعرتنا أنّه سيشار إليها بالبنان، فنصوصها جميعها نصوص مفعمة بالمشاعر والأحاسيس الإنسانية النبيلة، كما نصّها الدرامي “بوابات الهلع” – ذلك العميق والمرصّع باللوحات الشعرية، والمفعم بالأفكار والهموم الإنسانية ومحاولة إيقاظ الضمير الإنساني – يشكل، حسب رأيي سبقاً أدبياً في موضوعه وأسلوبه ورمزيته وسعة خيال مبدعته وجرأتها في تناول كثير من المسائل والأفكار، منها على سبيل المثال، زيف كثير من الدوغمات الميثالوجية، التي تستخدم لتخدير المؤمنين بها سعياً وراء أوهام من سراب كاللهث وراء الحور والخمر والولدان…
من الأفكار الجريئة التي تتناولها شاعرتنا فكرة حق المرأة في محاكمة الإنسان على ما تقترفه يداه في هذا العالم… ومسائل كثيرة أخرى تدفعني إلى أن أكتب انطباعي وبعض الأفكار حول هذا العمل وستدفع نقاداً جادين إلى التنقيب في طياتهما… وها هو ذا الناقد الأدبي الضليع والمترجم المتميز “حنا عبود”، يقدم رأياً غنياً منصفاً ينصف هذا السفر والجهد الذي بذلته شاعرتنا لتتحف المكتبة العربية به مع دواوينها الشعرية…
“يا صديقي،
لو….
وريقاتِ الرياحين…
سجاجيد صلاة
وإمام العشق أنتْ…
كنتُ صلّيتُ على جرحِ الحنايا
ثم كنتْ .
*****
يا صديقي
في مدى عينيك أعناب الحقيقةْ
وأنا…
مسجونة من ألف عامْ
كنتَ تدري؟
خلف ذاك العشب في عينيّ أغوار عميقة
جُزر الدمعِ…..
وآهات عتيقةْ،
قبل أن ينمو جناحٌ للحمامْ”.
هناك دواوين من الشعر نهوى أن نضعها تحت وسائدنا لكي نعود إليها كلّ حين، ولا نرتوي من عبيرها، من بينها دواوين ريم البياتي:
” قصائدنا…
التي صارت فراشات
تحوم على تخوم الروح،
تُمسك خيط لحظتنا
كطفٍل أودع الأحلام طائرة،
وقلبي الريح والساقي
تعاتبني…
…
ولا تدري…
أنك من دبيب الروح مزروع
بأعماقي
…
ولا تدري…
بأنّ يدي تفتش منذ أن كنا
هنالك حيث كان اللوح
والأرواح ما زالت ضباباً
دون أسماءٍ وأعراق
تفتش في لغات القلب عن فرحٍ
ليرتق عمري الباقي.”
(للغرباء والمنفى – ص46-48)
شاهر احمد نصر