( حديث المدينة )
على رأسِ الجسرِ الذي يقطعُ المصرفَ ليربطَ الطريقَ الوحيدةَ ببعضِها مضى كثيرٌ من الوقتِ ؛ ينتظرُ الأستاذ صابر أيةَ سيارةٍ تقلُه للمدينةِ ؛ فليس ثمةَ سبيلٍ آخرٍ يعيدُه للمدينةِ سوى تلك الطريقِ الممتدةِ عبرَ الزراعاتِ يخرجُ لها قاطنو تلك القرى المتناثرةِ على حافةِ الطريقِ ليركبوا ميكروباص يوصلُهم للمدينةِ . يصلُ الميكروباص يندفعُ الجميعُ ليفوزَ بأي كرسيٍ شاغرٍ . تصادف وقوفُ الميكروباص أمامَه لينالَ ثمرةَ صبرِه – كرسي شاغر في أخر الميكروباص – وما أن وضع قدمَه حتى انطلق السائقُ كاد أن يقعَ فوقَ الركابِ ؛ تلقفتُه أياديهم قبلَ أن يسقطَ ؛ يشكرُهم ، ويجلسُ قابعًا في الكرسيِ . يناولُ من أمامَه الأجرةَ لتصلَ للسائقِ المشغولِ عن الطريقِ بمفتاحِ الراديو ؛ تنسابُ لمسامعِه كلماتٌ من مقدمِ البرنامجِ :
– ومعنا فضيلةُ الشيخِ ليجيبَ على سؤالِ المستمعِ الكريمِ
فيعلو في أذنيه صوتُ من بجوارِه متحدثًا :
– يا باشا لا أحدَ يستطيعُ خداعي . لقد استطعت أن أجعله يوقعُ العقدَ دونَ أن ينتبهَ للشرطِ الجزائي . نعم فعلاً هو يتصلُ بي منذ الأمسِ وأنا لا أردُّ عليه .
يديرُ رأسَه للنافذةِ فيلمحُ دموعًا حارقةً في عينِ فتاةٍ على قدرٍ من الجمالِ تهمسُ في هاتفِها ؛ يدفعُه فضولُه فيرهفُ السمعَ لتتضحَ بعضُ كلماتِها :
– أرجوك امسح الصورَ من على تليفونك . هل ذلك جزاءُ ثقتي فيك . إن أصريت على طلبِك هذا سوف أنتحرُ .
يلطمُ أذنيه صوتُ امرأةٍ :
– العِيش في الفريزر والفاصوليا عندك سخنيها حتى أعودَ من شركةِ الكهرباءِ . صوتُك بيقطع قفي في مكانٍ فيه شبكةٌ . لأ طبعًا . الفاتورةُ بثلاثمائةٍ وسبعين جنيهًا .
يخالطُ صوتَ المرأةِ صوتُ من تجاورُها وتحملُ على حجرِها رضيعًا :
– حرارتُه ثمانيةٌ وثلاثون ولا تنخفضُ . ربنا يسهلُ . إن جاع الأولادُ غديهم .
تتحدثُ إحداهن لمن تجاورُها :
– اشتريت البيضتين بستةِ جنيهاتٍ .
– ربنا يرحمنا .
أحدُ الركابِ بغضبٍ :
– باقي الحساب يا أسطى .
– يا عم شوية صبر . لا يوجد فكة .
يكادُ السائقُ يصطدمُ بسيارةٍ مقابلةٍ ؛ ينبعثُ صوتُ إحداهن في الكرسي الأمامي :
– انتبه لطريقِك .
– هو سواقٌ أعمى .
يرنُ هاتفُه ، وبصوتٍ جادٍ يجيبُ :
– أيوة نزل النهاردة .. عارف والله عارف .
تثورُ الألسنةُ تتقاذفُ منها الكلماتُ :
– ونرجو في نهايةِ برنامجِنا أن نكونَ قد وُفقنا في إجابةِ أسئلةِ المستمعين الكرامِ . والله لأنتحر . على أن نلتقيَ في نفسِ الموعدِ . الكشفُ في مستشفى الحكومةِ أرخصُ لا تقلق . نتركُكم في رعايةِ اللهِ وحفظِه . نجيب منين كل هذا المبلغِ سأطلبُ منهم تقسيطَ فاتورةِ الكهرباءِ . مستمعينا الكرامَ . الفاصوليا باظت . وحتى نلتقيَ . أعلى ما في خيلِه يركبُه . سيدفعُ الشرطَ الجزائي ؛ القانونُ لا يحمي المغفلين يا باشا . لا نقولُ وداعًا . الكيلو وصل لأربعين جنيهًا نجيب منين . بل نقولُ . عندَ أولِ ماكينةِ سأصرفُه . حاضر.. حاضر… والسلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته .
يعلو صوتُ الراكبِ :
– الباقي يا أسطى .
– يا عم فلقتنا بالباقي بتاعك . ( يقولُها السائقُ بغضبٍ وقد استدار برأسِه للراكبِ )
تصرخُ المرأةُ في الكرسي الأمامي :
– خد بالك ..
على الأسفلتِ تتطايرُ صفحاتُ الجرائدِ والملاءاتُ المخضبةُ بالدماءِ التي تسيلُ على الأسفلتِ . تصطفُ عرباتُ الإسعافِ . يتناثرُ رجالُ الشرطةِ على الطريقِ يوجهون السياراتِ ، ومن نوافذِها تمتدُ الأيادي بالهواتفِ تصورُ . وما أن توقف الميكروباص في محطةِ وصولِه حتى انطلقت الأقدامُ كلاً في سبيلِها تسعى، وذابت الوجوهُ في خضمِ المدينةِ ذوبانَ المِلحِ في الماءِ . يذوبُ معهم صابرًا .
بقلم #سمير_لوبه
من المجموعة القصصية #ليه_يا_بنفسج