ما الكتابة الإبداعية إلا النطق بالمكبوت تحت الضلوع ؟ ألهذا حرمت النساء من الكتابة والإبداع الفكرى على مدى قرون؟ رغم أن المرأة اكتشفت الحروف منذ سبعة آلاف سنة، وعلمت اللغة للبشر، لم نسمع عن «لغة الأب» بل هى «لغة الأم» التى يتعلمها الإنسان منذ الولادة، ولحظة الموت لا ينطق إلا بها، شهدت بعملى الطبى الكثير من الموتي، من مختلف الأجناس والمذاهب، لا ينطقون مع النفس الأخير إلا كلمة «أمي»، وأنا أيضا، إن حلت بى كارثة لا أنادى إلا، يا أمى.تعود بى الذكرى إليها، وأنا أشهد هذا الشهر (مارس) مسيرات النساء بالشوارع يهتفن بسقوط النظام الرأسمالى الأبوى العنصري، القائم على القوة والعنف بالدولة والعائلة، والضرب والتأديب للأمهات والزوجات. والقتل باسم الرجولة والشرف والأخلاق، كانت أمى «زينب شكري» تريد مواصلة دراستها لتصبح باحثة بمجال الطب وتكتشف علاجا لمرض السرطان الذى قتل أمها، لكن الأب أخرجها من المدرسة بالضرب، وتم تزويجها لأبي، وهى فى الخامسة عشرة، لتلد تسعة أطفال، ثم تموت بالسرطان وهى فى ريعان شبابها. ثبت طبيا أن الحزن يحدث خللا بخلايا الجسم، مما يؤدى لأورام سرطانية حميدة أو خبيثة، حسب درجة الحزن، إن كان مؤقتا بريئا، أو مزمنا خبيثا، كان أبى زوجا فاضلا يعامل أمى باحترام وحب، لم يتعلق حزن أمى بزوجها أو إحباطها فى حياتها الخاصة، بل إحباطها فى حياتها العامة، لم تحقق أمى شيئا من طموحاتها الفكرية والعلمية، وكانت تنصحنى دائما بعدم إهمال طموحى الفكرى والأدبى لأجل أى رجل، وإن كان إمبراطور الصين. يظهر وجه أمى أمامى بعد ستين عاما من موتها، وأنا أشاهد وجوه النساء الخارجات للشوارع فى بلاد العالم، يشوحن بأيديهن فى وجه الظلم والقهر والهوان، يهتفن فى نفس واحد: يسقط العنف والتحرش بالنساء، تسقط الرجولة الزائفة، تسقط الأنوثة الذليلة، تسقط تعرية أجسامنا للسوق والأرباح، تسقط تغطية رءوسنا باسم الدين والأخلاق، تسقط الازدواجية والتفرقة بين البشر، تسقط عبودية القرن الحادى والعشرين. تختنق أصوات النساء بالدموع، يخرج هتافهن مبحوحا بعمق الألم المكبوت تحت الضلوع، من قلب الجروح النازفة رغم الزمن، على مدى سبعة آلاف سنة تراكمت الأحزان، لم تلتئم جروح الأمهات والزوجات والبنات، ما إن يلتئم الجرح حتى ينزف من جديد، ما إن تتحرر البنت من سجن الأب حتى تدخل سجن الزوجية، ما إن تتحرر من خدمة الزوج والأطفال والأحفاد حتى يهلكها التعب والمرض والإحباط. أكثر ما يهلك المرأة هو الحزن على ضياع عمرها فى الخدمة والطاعة دون جزاء، إلا القهر أو الغدر والخيانة، من الأحبة والأقرباء قبل الغرباء والأعداء، تحزن المرأة على فقدان نفسها واسمها وطموحها العقلي، يقولون لها: ليس لك طموح خارج الجسد، ليس لك حياة خارج الزواج، ليس لك ذات مستقلة يمكنك تحقيقها خارج بيتك وزوجك وأطفالك، يتهمون المرأة الطموح فكريا بالانحراف النفسى والأخلاقي، تدافع المرأة عن نفسها، وإن كانت كاتبة أو طبيبة أو وزيرة، بإعلان طاعتها الكاملة لزوجها، وطبخ المسقعة والكوسة، رأينا بالصحف صورة الوزيرة المصرية الأولى مرتدية فوطة المطبخ تقدم الطعام لزوجها، وأظهرت أشهر محامية مصرية الزهو بمسح حذاء زوجها، وصرحت إعلامية معروفة بأن لزوجها حق تأديبها بالضرب دون إحداث عاهة مستديمة، وبالفضاء الإلكترونى رفعت مجموعة نساء شعار «زوجى هو زوجك» لتشجيع الرجال على الخيانات الزوجية. أكبر المظاهرات النسائية اليوم بالفلبين وكوريا وأفغانستان وبولندة والأرجنتين وأوروبا وأمريكا، وفى إسبانيا نظمت النساء إضرابا عن العمل بالبيوت (8 مارس 2018) على غرار إضراب نساء أيسلندة عام 1975 لمدة يوم واحد، الذى أدى لتوقف جميع دواليب العمل والحركة بالدولة، بما فيها الطائرات والقطارات، ولزم الرجال البيوت يرضعون الأطفال ويطبخون، رفعت النساء الشعار «إن توقفت النساء عن العمل يتوقف كل شيء» تربط النساء الواعيات بين العنف الزوجى وعنف الدولة. وفى عام 2003 وجدت نفسى وسط مظاهرة ضخمة بمدريد، ارتفع فيها الشعار «الاستثمار فى الصحة والإبداع وليس فى الأسلحة والحروب», حطمت النساء الصحون بالشوارع، احتجاجا على جرائم «بوش وبلير وأزنار» فى حربهم ضد العراق (2003)، فأين نحن من الوعى النسائى فى العالم؟
د. نوال السعداوي
طبيبة و اديبة و مفكرة مصرية