مختارات من فنون السرد في سلمية :
(9)
تَيَّارُ الوَعي في الرِّواية العَربيَّةِ المُعاصِرة)
دراسة نظرية وتطبيقية على رواية (شهد المقابر) للروائي السوري محمد المير غالب:
قبلَ الحَديثِ عَنْ تَيَّارِ الوَعي, لابُدّ لنا مِنَ المُرورِ السَّريعِ مُذكِّرينَ بأنَّ الرِّوايةَ, وهيَ فنٌّ حَديثٌ بالقيَاسِ إلى الفنُونِ الكِتابيَّةِ الأخْرى, مَعَ أنَّ جُذورَ القَصَّ مَوجُودةٌ في التُّراثِ الشَّفويِّ وَالكِتابيِّ منذُ عُصُور, وَقدِ استَمَرَّتِ الرِّوايةُ مُحَافظةً على أبْعَادِها الثُّلاثيَّةِ المَعْرُوفةِ, وَهذهِ الأبْعَادُ هِيَ الحَدَثُ والشَّخصِيّاتُ واللُّغةُ الواقعيةُ.وَنُذكّر بأنّ الرِّوايَةَ في الأصْلِ بَدأتْ بالوَاقعيَّة.
مَثّلَ تيّارُ الوَعي في الرِّوايةِ الحَديثةِ ثَوْرةً في تاريخِ التَّطوّرِ الرّوائيّ, منذُ القرْنِ العِشْرينَ,واسْتمرّ هذا التَّيَّارُ حَتَّى الآنَ, مَعَ أنّ التَّيّارَ في أصُولهِ التَّاريخيَّةِ يَنتمي إلى التَّيَّار النَّفسيِّ( السِّيكولوجيِّ), لكنَّهُ استقلّ عنهُ, وَبدأ التَّفريقُ بينَ تيَّار الوَعي والتَّيَّارِ النَّفسيِّ, وأخذ تيار الوعي يَخطُّ طريقهُ بعيداً عنِ التَّيَّار النَّفسيِّ.
تعريفُ تيَّار الوَعي: (سنكتفي بالجانبِ الأدبي )…
تعددَتْ تعريفاتُ تيَّار الوَعي منذُ ظهورِ هذا المُصطلح النَّقديِّ في الأدبِ, فقدْ عَرّفَهُ (هنري جيمس ومارسيل بروست) بأنّه ” نوعٌ منَ القصصِ يُركّزُ فيه أسِاساً على ارتيادِ مُستوياتِ ما قبلَ الكلامِ منَ الوَعي, بهدفِ الكشفِ عنِ الكيانِ النَّفسيِّ للشَّخصياتِ”, غيرَ أنّ هذا التَّعريفَ لمْ تبقَ لهُ قيمةٌ أوأثرٌ على كتّابِ الرِّوايةِ الحَديثةِ فيما بعدُ. وهناكَ تَعْريفٌ حَديثٌ يَرى أنَّ (تيارَ الوَعي هُوَ أداةٌ سَرديةٌ, تُحاولُ إعطاءَ المُكافئَ المَكتوبَ لِعَملياتِ تَفكيرِ الشَّخْصيَّةِ, إمّا في مُونولوجٍ داخليٍّ فَضْفاضٍ أوْ فيما يتعلقُ بأفعالهِ أوْ أفعالها, وبذلكَ نستنتجُ أنَّ تيَّارَ الوَعي يتعلّقُ بِشَكلٍ كاملٍ بالشَّخصيّاتِ التّي تَظهرُ في الرِّوايةِ.
يَعتقدُ بعضُ الدَّارسينَ أو النقّادِ أنَّ تيَّارَ الوَعي باعتبارهِ ظَهرَ في الدِّراساتِ النَّفسيَّةِ, بلْ ويزعمُ بعضُهم أنّ (فرويد) أوَّلَ منِ اكتشفَ هذهِ الطَّريقةَ في العِلاجِ النَّفسيِّ, غيرَ أنّ مُصطلحَ (تيَّار الوَعي) ظهرَ على يدِ الفيلسوفِ وَعالمِ النَّفسِ الأمْريكي (وليام جيمس) عام 1884.
دَخلَ هذا المُصطلح عالمَ الأدبِ في الرِّوايةِ باعتبارِهِ (شَكلاً سَردياً) يقومُ على مُحاكاةِ أو تَوازي الأفكارِ الدَّاخلية للشَّخصيّاتِ.
أثرُ تيَّارِ الوَعي في الرِّواية الحَديثة:
لَعِبَ التَّجريبُ الفنيُّ دَوْراً نشيطاً في روايةِ تيَّارِ الوَعي, باختراعِ أنواعٍ جديدةٍ منَ التَّكنيكِ الرِّوائيِّ, ويُعرَّفُ تكنيكُ تيَّار الوَعي بأنّهُ هوَ التَّكنيكُ الذّي يَستخدمُهُ الرِّوائيُّ لتقديمِ المُحتوى الذِّهني, وَالعملياتِ الذِّهنيةِ للشَّخصيّةِ عنْ طريقِ وصفِ المُؤلّفِ (واسعِ المَعرفة) لِهَذا العالمِ الذِّهنيِّ منْ خلالِ الطُّرقِ التَّقليديَّةِ للقَصصِ والوَصْفِ, ومنْ خلالِ التَّوحيدِ بينَ المُؤلّفِ والشَّخصيَّةِ الرِّوائيةِ, وبذلكَ يتمُّ تقديمُ المُحتوى الذِّهنيِّ والعملياتِ الذِّهنيّةِ الشَّخصيّة مباشرةً من َ الشَّخصيّة إلى القارئِ بدونِ حضورِ المؤلّفِ, ولكنْ مَعَ اِفْتِراضِ وُجودِ الجُمهورِ افتراضاً صَامتاً. وفي حالةِ تقديمِ الحَالاتِ الذِّهنيةِ المُضْطربةِ بخاصةٍ, يؤدي إلى استخدامِ تكنيكٍ خاصٍّ هوَ القالبُ الشِّعريُّ, وَهوَ تَعْويضٌ عنْ غِيابِ المُعَادِل المَوْضُوعيّ لِلعَاطفةِ. إنَّ الوَعيَ الخاصَّ شيءٌ ذاتيٌ لا يتوقفُ إطلاقاً , فهوَ في حَركةٍ دائمةٍ . ومنْ أنواعِ التكنيكِ (المنُولوجُ الدَّاخلي), يخلطُ بعضُ الدَّارسين بينَ مُصطلح تيّار الوَعي كأداة سَرد, وبينَ المنُولوجِ الدَّاخلي, بينما يَعني المنولوجُ كَمُصْطلح بلاغيّ يدْخل ضِمْن تيّار الوَعي, هَدفُه تقديمُ المُحتوى النَّفسيّ لِلشَّخصيّة والعَملياتِ النَّفسيَّة لَديها بشكلٍ مباشرٍ أو غيرِ مُباشر, ونميّزُ بين نَوعَيِ المُنولوج, فالمُباشر لا يهتمُ بتدخُّلِ المُؤلفِ ولا يفترضُ وجودَ سَامِع , وَيستخدمُ ضَميرَ المُتكلّم. بَينما يُفترضُ بغيرِ المُباشر أنّه يستخدمُ ضَميرَ المُخَاطبِ ليُعْطيَ القارئَ إحْسَاساً بحُضورِ المُؤلّف المُسْتَمرِ, والقيامِ بإرشَادِ القارئِ عنْ طَريقِ التَّعْليقِ وَالوَصْفِ, ويتدخلُ المُؤلِّفُ بينَ ذِهنِ الشَّخصيَّة وبينَ القارئِ.ومنْ أنواعِ التكنيكِ: استخدامُ التَّداعي الحُرّ, وهناكَ عَواملُ تقومُ بتنظيمِ عَمليةِ التَّداعي, وَهيَ ثلاثةٌ (الذَّاكرةُ التي تشكلُ الأسَاسَ, والحواس التي تقودُ عَمليةَ التَّداعي, والخيال الذّي يُحددُ طَواعيتَه), ومنْ أشكالِ التَّداعي الحُرِّ التَّحَرُكُ بِحُريّة في الزَّمَنِ, وَاسْتخدامُ عَلاماتِ التَّرقيمِ ابتغاءَ الوصُولِ إلى تنظيمِ حَركةِ الوَعي, فمثلاُ يضعُ المؤلّفُ عِباراتِه بينَ قَوسَينِ إشَارةً إلى الانْتِقالِ بَينَ طَبقاتِ الوَعي.
وقدْ قامَتْ رِوايةُ التَّجْريبِ على كَسْرِ القَوالبِ النَّمَطيةِ لِلرِّواية, وتغليبِ المَنْظورِ الذَّاتيِّ وظُهورِ الشَّخْصيَّةِ الوَاعيةِ بِدونِ ضَوابطَ سَببيّةٍ, عنْ طَريقِ أُسْلوبِ الوَصْفِ وَمُناجاةِ النَّفسِ والفلاش باك . وَهكَذا اخْتفتْ في الرِّوايةِ المُعَاصِرةِ الشَّخصيَّةُ الكلاسيكيّة, مِمّا أوْجدَ خَللاً في سَرْدِ الرِّوايةِ, كافتقارِ الرِّواية إلى تنظيمِ حَركةِ الأحْداثِ, واسْتخدام علامَاتِ التَّرقيمِ بصُورةٍ مُختلفةٍ وغيرِ تقليديَّةٍ عمّا عَلمناهُ منْ فائدةٍ لعَلاماتِ التَّرقيمِ في الكتابةِ, ومنْ جِهةٍ أخْرى يَظهرُ خللٌ في التَّرتيبِ الزَّمَنيِّ للأحْداثِ, والاعتمادُ على الرَّمزيةِ بمَا فيها مِنْ قلقٍ يَسْتدعي سِرعةَ بَديهةٍ لَدى المُتلقي.
إنّ الرِّواياتِ التي نُسِبتْ إلى تيّارِ الوَعي والتّي بَرز فيها كتّابٌ كِبَار في الوَطنِ العربي أمثال حيدر حيدر في روايتيه (الزَّمن المُوحش) و( وليمة لأعشابِ البَحْر) والطيَّب صَالح في روايتهِ (موسمُ الهجرةِ إلى الشِّمال), تعتبرُ خطوةً مُتقدمةً في عالمِ الرِّواية بما فيها منْ إيجابياتٍ تجاوزتِ الطُّرقَ التقليديةَ في مُعالجةِ الأحْداثِ وَرسمِ الشَّخصيات, كما أُخِذ عليها بعضُ الجوانبِ السَّلبية التي ذكرْنا, لكنّها ماتزالُ في مرحلةِ التَّجريب, والزَّمن والتَّطورُ كفيلانِ بتجاوزِ السلبيات .
الدِّراسَة التَّطبيقيّة:
رواية (شهد المقابر) للرِّوائيّ السُّوريّ الشَابِّ محمد المير غالب, والرّواية الحائزة على جائزة (كتارا للرواية العربية) لدورة 2017 فئة الرّوايات غير المَنشورة.وهي أولُ رواية للكاتب وبينَ يديَّ الطَّبعة الأولى 2018 الصادرة عن دار كتارا للنشر وعدد صفحاتها 454 صفحة. ولتجنّب الإطالة نقتطفُ ونكتفي بمُلخصُ الرِّواية الذي اختيرَ ليكونَ على صَفحةِ الغلافِ الأخرى, وهو اقتباسٌ من الرِّواية ” صديقي الحبيب قاتل, اسمه ” زياد” لقبوه بـ ” مرتد” هو الذي دفعني إلى كتابة هذه الرواية علّها تساعد غفرانه على إيجاد رفيق ما, عرضت فيها كلّ المذكرات الشخصية والرسائل التي اعتاد تدوينها بعد التحاقه بالخدمة العسكرية الإلزامية قبيل نشوب الحرب السورية بأشهر قليلة , حيث سرد رحلة فراره من قطعته العسكرية بحثا عن الانتقام من أحد الضباط المتنمرين فيها, ثم اختياره الانضمام إلى كتائب المعارضة المسلحة المتمركزة حول مدينتنا , لينتقل فيما بينها زاجَّاً بنفسه في أخطر المهام السرية طامعا بطرد تهمة “الردة” التي ألصقت به, قبل أن يتحول إلى واحد من أبرز مقاتلي إحدى التنظيمات الإسلامية المتشددة والمصنغة تحت بند ” الإرهاب” . تعرض الرواية من خلال شخصية بطلها المتقلقلة تقلبات المجتمع السوري بأكمله.
تُمثّل الرِّواية (شهد المقابر) نموذجَ روايةِ التَّجريب, حيثُ تمزجُ بينَ السَّردِ بضميرِ المتكلم, والسّرد بلسانِ المؤلفِ والرَّسائل والمُذكرات. إنَّ الرِّواية تقدّمُ لنا الشَّخصيّة (البطل ) بصورةِ المؤلفِ نفسِهِ, سَواء عنْ طريقِ الرَّسائلِ أو المذكراتِ أو السّردِ الرُّوائي والوَصفِ, إذْ كُلُّ الوَسائلِ التَّعبيريةِ تشتركُ في صناعةِ الحَدثِ الرِّوائيِّ, وكأنّ الكاتبَ يبتغي إقناعَ القارئ بِحقيقةِ الحَدثِ الرّوائي, وَحيثُ يبدأ المؤلفُ روايتَهُ باستخدامِ تقنيَّة (الفلاش باك) فيبدأ روايتَهُ مُحدِّداً تاريخ 27 تشرين الأوّل منْ عامِ 2014 , وهوَ تاريخُ متقدّم على بداياتِ الأحَداثِ في الرِّوايةِ,فالأحداثُ تبدأ تاريخياً من تموز 2010 ومن خلالِ التَّذكرِ نرى تاريخاً يسبقُ ذلك أيضاً, لكنّ تيَّارَ الوَعي يركّز على أهمِّ الأحداثِ التي تعبّرُ عن حَركةِ وَذهنيّة الشَّخصيَّة (البَطل), وهذا التكنيكُ الرّوائي يَستدعي التَّذكّر والمُونولوج الدَّاخلي ” أتذكر الوطن ؟ وطن الإنسان ذاكرته …” وفي الرّوايةِ عودة إلى الوراءِ وتيار وعي تمثلَ في استبطان ذاتي ” منذ ذلك اليوم كانَ عليّ أنْ أفهم كلّ ما في هذا الكوكبِ من الإنسانِ والبيوتِ حتّى الدُّول والخريطة العالمية يملك خط الاستواء أو خط غرينتش أو كليهما داخله, أنّ أفكارنا وعواطفنا ووطننا ومدننا مقسّمة بالسّرّ إلى شرقية وغربية”, إن تداخل الشُّعور ومحاكاةَ أو توازي الأفكارِ الدَّاخلية للشّخصية يؤثر في سردِ الرواية فلا علامات ترقيم ولا ترتيب زمني للأحْداث, في الرّواية نجدُ رثاءَ للزَّمن العَربي يقولُ المؤلِّفُ على لسان البطل: ” حشرتُ نفسي في الحافلة الوحيدة التي تقل السوريين العائدين مع انكسارهم إلى الوطن المكسور من تركيا “. نلحظُ أيضاً رثاءً للنفسِ البشريّة التي أصبحتْ تتقاذفُها الصّراعاتُ : ” يُصفع مروان ” ويشوّل” , يربط في الشوال كأي ذبيحة ثم يرسل إلى المحكمة الشرعية , ليعدم ذبحا في الساحة العامة أمام الناس بتهمة الكفر وعبادة الأصنام , بعد أن يحرقوا منزله ومقهاه بما فيهما من منحوتات خشبية ….” ومنْ أشكالِ تيار الوعي في الرّواية ذلك الاستخدام السينمائي الذي تمثل كما ذكرنا في التداعي الحرّ للسَّردِ والقطعِ والتوازي وتكبير اللَّقطة :” قد احتلّ السفلة غربل باشا يا سَرحان! ” وضع يده على فمي وقال: – اخرس يا زياد, ألم تعتدْ على كلماتهم؟ قلْ: قد حرروا غربل باشا. – أي تحرير هذا يا سرحان؟! إنّ الرصاصة كالأنثى, إن لم تملك عقلا وعاطفة تخرّبُ ولا تُحرّر”. لقد استخدم المؤلف اللّغة الشّعرية محاولاً التعويضَ عن المعادلِ الموضوعي للعاطفةِ, فمشاعر شخصية البطل يُخلخلُها التناقضُ والقلقُ النفسي, تتنازعُه مَشاعرُ الألمِ والقهرِ, والخوفِ والغضبِ والحزنِ. يجعلُ منَ البطلِ شخصيةَ متناقضةَ ومضطربةٍ وحائرةً, بين أمورقدْ تختلفُ في ظاهرِها وتتشابهُ في بواطِنها .إنّ المؤلفَ باعتبارِهِ ينطقُ بلسانِ البطلِ يبدو دائماً مُتدخّلاً فيما بينَ المُحتوى النَّفسي للشَّخصيةِ, وهذا يُعبَّرُ عنه بالمنولوج غيرِ المُباشرِ حينَ يدخلُ المؤلفُ بينَ ذهنِ الشَّخصيّة وبينَ القارئ ليرشدَ القارئَ عنْ طريقِ التعليقِ أو الوَصفِ, وهذا برزَ بوضوحٍ في المقاطعِ التي جعلَها الكاتبُ بخطٍّ عريضٍ مُختلفٍ عنْ بقيّةِ الكتابةِ , وهي تضيفُ تكنيكاً حَديثا للسَّرد الرِّوائي. فيبدو المؤلفُ في علاقة توحيد بينَه وبينَ الشَّخصية الرِّوائية. وهذا دليل على سِعة مَعرفة المؤلفِ بالعَالم الذَّهنيِّ للشَّخصية , بما يجعلنا نفترضُ مَعرفة المؤلفِ عن قربٍ للشَّخصية الرَّئيسةِ أو بطلِ الرِّواية . وهو افتراض يدعمُه تصريحُ المؤلف بأنّ الرِّواية في متنِها هيَ مذكراتُ ورسائلُ البطلِ.
(الناقد فائق موسى)