…زربية وادي ميزاب أنموذجا
تعد صناعة الزرابي من الحرف الأكثر استقطابا للعائلات الجزائرية رغم ارتفاع تكلفتها وقلة الطلب عليها في الأسواق المحلية ، في حين تحتل مراكز متقدمة عالميا ومراتب جد مشرفة ولها حضور مستمر في المحافل الدولية ، وتشكل مصدر رزق العديد من العائلات في مناطق الجزائر رغم ضعف عائداتها المادية نتيجة ارتفاع سعر المواد الأولية المستعملة في صناعتها ، وتأخذ وقتا طويلا يصل أحيانا الى شهور عديدة لإنجاز زربية واحدة ، نذكر زربية خنشلة ، زربية ميزاب ، زربية أث هيشم ، زربية قرقور ، زربية جبل لعمور ، كل هذه المناطق من الجزائر الواسعة حافظت على الزربية من الاندثار و من ضياع أهم ما يميزها من جمال تجسده رسومات ورموز وأشكال تحاكي الأزمنة الغابرة ، وللعائلات الجزائرية فضل استمرار هذا الإرث الثقافي وحضوره في مختلف التظاهرات الثقافية والتجارية ، كما هو الحال في زربية ” ميزاب ” التي هي موضوعنا من خلال ما قدمته الباحثة المتعددة التخصصات ، الإعلامية الأستاذة في علم الاجتماع والفنانة التشكيلية … ايمان كاسي موسى ، من أبحاث أوردتها في محاضرة قيمة بمناسبة اختتام شهر التراث لسنة 2023 م ، تحت عنوان : الزربية الميزابية تراث غير مادي متعدد الوظائف ، ركزت فيها على عمل أكاديمي ميداني بمنطقة وادي ميزاب أنجزته في اطار تخرجها من المدرسة العليا للفنون الجميلة ، واستطاعت من خلاله تفكيك العديد من الرموز المشكلة في رسومات الزربية والتي ظلت مجهولة وغير مدروسة أكاديميا .
عرفت الباحثة بمختلف المصنوعات التي تزخر بها منطقة ” وادي ميزاب ” بجنوب الجزائر ، على غرار مناطق أخرى كثيرة من الجزائر التي تكتنز معارف ومهارات ذكرتها الأستاذة في سياق حديثها في مقاربة لتصنيف التراث ، وقالت ” اليونيسكو ” ركزت على تصنيف مواد كتراث لا مادي في الوقت الذي يعتقد الكثير على أنها تراث مادي كونها مصنوعات مثل : الآلة الموسيقية الإمزاد عند الطوارق بأقصى جنوب الجزائر ، اللباس المعروف بالشدة التلمسانية ، طبق الكسكس في مناطق الشمال الافريقي … ، وحسب الباحثة كاسي موسى فإن اليونيسكو لا تكتفي بالظاهر عند تصنيفها للتراث الذي نراه بالملموس وانما كل ما تعلق به من معارف ، لذلك تعريف اليونيسكو للتراث غير المادي في اتفاقية 17 أكتوبر 2003 م يقصد به الممارسات والتصورات ، والمعارف ، والمهارات ، وما يتصل بها م آلات وقطع ومصنوعات : كما له معايير التصنيف : أن يكون تراثا حيا تكراريا يتم انتاجه بصفة دورية ، متوارث عبر الأجيال ، وحاضر في كل المناسبات ، أيضا التراث التمثيلي الذي يستمد جذوره من المجتمعات المحلية ، وتلعب المجتمعات الأصلية دور كبير في انتاج هذا التراث غير المادي ، كما هناك اتفاقية أخرى سنة 1972 م متعلقة بحماية التراث الثقافي والطبيعي ، واذا ما أردنا معرفة سبب عقد اتفاقية ثانية بعد عقود من الزمن تضيف تقول الباحثة : هناك تطور النظرة حيال التراث بشكل عام ، خصوصا لما وجدت بعثات البحث الأنثروبولوجي بإفريقيا أين اكتشفوا الجانب الدسم لكل لمهارات المجتمعات الأصلية التي يعطيها هالة من المقدس ، في حين هناك حرص كبير على القيام بتلك التقاليد والممارسات التي تدخل ضمن مختلف البنى الاجتماعية للمجتمعات .
أشارت الباحثة الى أسماء المستشرقين الذين تناولت أبحاثهم الزربية الميزابية في القرن 19 للميلاد ، بحيث أشارت الى تعدد دراستهم المهتمة بالتراث غير المادي خصوصا عند الوجود الفرنسي ، بالنظر للزخم المعرفي الذي يطبع منطقة شمال افريقيا علاوة على أنه سبيل الالمام بثقافة المنطقة ، وبالتالي توفرت الدراسات ذات الطابع الأنثروبولوجي لمجمل المصنوعات والعادات المصاحبة لها من طرف الوافدين ، فأنتجت المادة الخام التي تأبى الاندثار ، وذكرت الباحثة أسماء الباحثين المستشرقين الذين لهم دور في التعريف بهذه المعارف الإنسانية من بينهم : مارسيل ميرسيه ، أميلي ماغي ، لوسيان غولفان ، غواشن التي أصدرت كتاب : الحياة النسوية في ميزاب ،كما أشارت الى أن الزربية الميزابية تمتد الى الاف السنين ، الأمر جعلها تقوم بدراسة جامعية سنة 2014 . 2015 م مكنتها من انتشال عدة مفاهيم بينت أن المجتمعات القديمة التي سميت بالبدائية وهي من أرقى المجتمعات ، باعتبارها أحست ثم أدركت ثم عبرت وانتجت فنون منها فن النسيج والفخار …
ذكرت الباحثة برواد الفن التشكيلي من المستشرقين الذين اهتموا بصناعة الزربية بالجزائر ، والزربية بوادي ميزاب على وجد التحديد ، منهم : أوجين ديلا كروا ، بيكاسو ، أوري ما سيس ، هؤلاء وظفوا الزربية في أعمالهم الفنية ، سواء ضمن المدرسة الرومانسية التي تستلزم توظيف الألوان الزاهية مثل ما هو في لوحة ″نساء الجزائر ″ ، أو في المدرسة التكعيبية من خلال 14 لوحة ، وجعلت للزربية حصة الأسد فيها ، الأول الذي جسد الفكرة هو ″ أوجين دبلاكروا ″ في لوحة نساء الجزائر في مخدعهن ، والثاني الذي هو ″ بيكاسو″ أعادها في 14 لوحة ، أيضا المستشرق نصرالدين ديني تأثر كذلك بالطبيعة الزاهية ، وفي هذا الصدد يقول مارسيل ميرسي في 1932 م لم يتم تناول زربية ميزاب بالدراسة رغم التنوع الخارق للعادة المتضمن هذا المنتوج الخاص بشمال افريقيا ، بها تعددية منقطعة النظير في التقنية التزيين والألوان ، كم من منهجية محلية يجيب القيام بها بغية رسم الأبعاد الدقيقة لتلك التقاليد ومعرفة الافتراضات الحاصلة
وللألوان الزاهية في محاضرة الباحثة ايمان كاسي موسى أهمية كبرى ، باعتبارها إعلامية فنانة تشكيلة تخرجت من المدرسة العليا للفنون التشكيلية ، بحيث تطرقت الى أهمية كل اللون ومدلوله من الناحية الضوئية والصباغة ، فالأحمر يعتبر رئيسيا في الألوان الضوئية والصباغة ، فهو رمز الحياة في كثير من الحضارات ارتبط بالجانب الديني والكثير من الطقوس ، كما أن الأحمر الأرجواني هو الذي أخذ حصة الأسد في الزربية ، كما برز الأحمر في كل ما له صلة بالشرف أو بالنار ويعتبر المنسج عند الأمازيغ أداة لتصفيح البنات ، اللون الأصفر هو الأخر لون رئيسي يرمز للنور لأنه مستمد من الشمس ونجده في زرابينا ممثلا في الشموع ، فمثلا زربية ميزاب بها كثير من الرموز لها علاقة بالمقدس كإضاءات الشموع في المناسبات ، اللون الأخضر رئيسي في الألوان الضوئية وثانوي في الصباغة لأنه مركب من الأزرق والأصفر ، كما هناك ثلاثة ألوان رئيسة : الأزرق ، الأصفر ، الأخضر ، كما في الكثير من الديانات اللون الأخضر يرمز للجنة ، ويتخذ في الكثير من الثقافات لونا روحيا ، ففي شمال افريقيا هو رمز ديني اتخذته القباب والأضرحة غالبا ما تتستر باللون الأخضر ، ناهيك كونه لون الهدوء والحياة
أما عن الرموز المجسدة بمختلف الزرابي ، شرحت الباحثة مدلول رموز ظلت محل نقاشات عند الكثير غاب فيها الجانب الأكاديمي ، خاصة ما ارتبط أساسا بالأشكال الهندسية والخطوط المصممة في مختلف الصناعات الفنية ومنها الزربية على وجه التحديد ، إذ تستخدم حسبها لقصد الايجاز كما في الرموز الكيميائية والحسابية والفزيائية ، وقد تنوعت بين تسميات منوطة بالأشياء وأخرى بالنباتات الى جانب ما أتصل بالحيوانات مثلا رمز : أبزيم ، العين ، أموذ الذي يقال له الأفعى وقد يكون على علاقة بأمون بحيث هناك تداخل بين الحضارة اللوبية الأمازيغية والحضارة الفرعونية ، أيضا رمز الوعي بالكوكبة ، رمزي العين والخامسة ، فنجد اسلافنا لهم عادة رد الطاقة السلبية سواء بالخامسة أو بالعين… ، كما هناك رموز متصلة بأدوات النسيج ولوازم العروس ، النباتات والحيوانات ، فالإنسان يعبر عن ما يجده بمحيطه ، وأبزيم قبل اختراع المخيط ليحل مكانه ، أما فيما يخص الأشكال فتقول المحاضرة هي متنوعة من خطوط افقية وعمودية ، فالمتوازية مثلا ترمز للصراع الدائم ، والخطوط المتقاطعة تفيد النظام والتعاون والمبعثرة ترمز للضياع ، فخلال بحث ميداني قامت به حول رزبية ″ أث هيشم ″ بمنطقة القبائل وجدت المعين يفيد اتحاد الجنسين ، ناهيك عن أشكال هندسية وأخرى ذات مدلولات عقائدية وتجليات فنية تتوافق مع ما ورد من اليونيسكو حول علاقة الرمزية الدينية بالظواهر .
الجزائر . أبو طارق الجزائري