لا أعرف لماذا تهوى ذاكرتي العودة إلى البدايات. بداية الثورة السورية في مارس/ آذار 2011، واستحضار أحداث لم أعطها أهميتها وقتها، وإذ بي أجدها تداهمني، وتفرض نفسها علي، وتأمرني أن أكشف النقاب عنها، ولأني أؤمن أن النهايات تحددها البدايات، فقد طاوعت ضميري، لأكتب عن تلك الحوادث التي تبدو مُضحكة وأشبه بالنكتة، لكنها ذات دلالات خطيرة.
منذ بداية الثورة السورية، وكنت لا أزال موظفة (طبيبة عيون) في المشفى الوطني في اللاذقية، وكنا كالعادة، أطباء وممرضات، نخربش توقيعنا الصباحي على دفتر الدوام، ومعظمنا كان يفرّ من المشفى، بعد التوقيع، ويذهب إلى عيادته الخاصة. في تلك الفترة، أي في شهر مارس/آذار من عام 2011، تم توزيع عدة أوراق إلى كل العاملين في المشفى الوطني، أوراق أعطوها لكل موظف، بعد أن خربش توقيعه على دفتر الدوام تشرح لنا خطة الأمير بندر بن سلطان لتدمير سورية! وتحكي بالتفصيل الدقيق مراحل تلك الخطة، وتصاعد العنف والإجرام فيها، واكتشفتُ لاحقاً أن كل مؤسسات الدولة وزعت تلك الأوراق (عن مؤامرة بندر بن سلطان) على العاملين لديها! يومها، قرأت تلك الأوراق بذهول، وتساءلت طالما أن الخطة، أو المؤامرة، مكشوفة إلى هذه الدرجة، فلماذا لا تُتخذ إجراءات لإحباطها؟ والعجيب أن كثيرين من الموظفين صدقوا تلك الخطة، كما لو أن بندر بن سلطان لاعب شطرنج، يحرك الأوضاع في سورية كما يشاء.
في تلك الفترة، غصّت الشوارع في اللاذقية بلافتات من نوع (الجزيرة، والعربية، والفرانس 24) قنوات سفك الدم السوري، ولافتات أخرى، أعترف، بكل خجل، بأنني لا أملك الشجاعة لذكرها. وبعد أيام، فوجئت بمسرحية من الطراز الرفيع، إذ أحضر مسؤولون في المشفى الوطني في اللاذقية كُوَماً من حبوب دوائية، كوّموها مثل هضبة في ساحة المشفى، وقالوا إنها حبوب هلوسة، أرسلتها قناة الجزيرة إلى اللاذقية. ووسط مشهد لا يمكن أن أنساه، تحلق معظم العاملين، من أطباء وممرضات في المشفى الوطني في ساحته، وتفرجوا مذهولين على هضبة حبوب الهلوسة، كيف صبّ عليها المسؤولون البنزين وأحرقوها. كنت أتمنى لو أحصل على حفنة من تلك الحبوب، لأعرف إن كانت سكاكر أم طباشير. وانطلت المحرقة على كثيرين صدقوا أن هضبة الحبوب البيضاء الصغيرة هي حبوب هلوسة، أرسلتها قناة الجزيرة للشعب السوري، تماماً، كحبوب الهلوسة التي تحدّث عنها القذافي. ولمّا سألت زملاء، كيف تأكدوا أن قناة الجزيرة هي من أرسلت حبوب الهلوسة، قالوا إن العنوان كان مكتوباً على الأكياس العملاقة التي تضم حبوب الهلوسة!!
لا أعرف سيناريو أتعس وأفشل من هكذا سيناريو، فلو أرادت جهة ما إرسال سمومٍ، أو حبوب هلوسة، إلى جهة عدوٍّ، هل تكتب عنوانها صراحة؟ المحرقة التي تمت في ساحة المشفى الوطني في اللاذقية تمثيلية مفضوحة إلى حد كبير، لكن أناساً بسطاء مُروعين، طوال عقود من الذل والخوف والذعر، يجدون مبرراً ليصدقوا، ليُخرسوا صوت العقل والمنطق، ويصدقوا أن قناة الجزيرة أرسلت حبوب هلوسة للشعب السوري. لست بصدد الدفاع عن قناة الجزيرة، هنا. لكن، ما يعنيني هو ذلك الاستخفاف والاحتقار للشعب السوري، تلك التمثيليات المفضوحة والمُقززة التي تُقدم له حقائق لا يجرؤ أحد أن يشك بها.
جدران المشفى الوطني منذ بداية الثورة عليها لافتة أبدية: خلصت، خلصت، خلصت، مكتوبة بخط كبير ثم متوسط وصغير، والمقصود خلصت المؤامرة على سورية، ولا يجرؤ أحد من العاملين في المشفى أن يقول لهم إن المؤامرة ما خلصت. الخوف يلصق الشفاه بصمغ الخوف والذعر، وحتى حين أصبح المشفى الوطني في اللاذقية يغصّ بالنازحين، من حلب وريف إدلب، لم يجرؤ أحد أن يسأل المنكوبين عن ظروف نزوحهم؟ وكيف تدمرت بيوتهم؟ ومن دمرها؟ الخوف سيد الموقف. الخوف الذي تخمّر في النفوس طوال عقود وعقود. لا أنسى منظر جندي سوري أسعفوه إلى المشفى الوطني، بحالة خطيرة، وكسورٌ عديدة في كل أنحاء جسمه. كان في الثالثة والثلاثين من عمره، ودخلت أمّه في حالة ذهول وهذيان، وهي تردد: في سبيل من عُطب إبني؟
يا لروعة الفعل المبني للمجهول. يومها تمنيت الموت الرحيم لرجل ستكون إعاقته، إن بقي على قيد الحياة، جحيماً لأسرته. يمكنني ذكر مئات القصص المُشابهة من خلال عملي في المشفى الوطني في اللاذقية، ومن خلال إطلاعي الدقيق على قصص وحالات مُروعة، كم من شاب مات في المُعتقل بالسكتة القلبية، كما يقولون للأهل، ولم تُسلم جثثهم لأهلهم، بل بالكاد يعطونهم تقريراً بالوفاة. شباب سورية يتحولون أوراقاً، إما ورقة نعي: الشهيد البطل، أو ورقة بشهادة وفاة إن مات الشاب في المعتقل.
إلى متى سيُعامل الشعب السوري باحتقار واستخفاف وعدم احترام؟ إلى متى سوف تستمر المسرحيات الهزلية تُقدم له حقائق؟ أعظم مخرجي العالم الموهوبين عاجزون عن ابتكار مسرحية إحراق حبوب الهلوسة التي أرسلتها قناة الجزيرة إلى المشفى الوطني، وقد كتبت عنوانها صريحاً على الأكياس؟ وبعد أربع سنوات من الجحيم السوري، حيث نزح أكثر من ثلث الشعب، ويعاني أكثر من 80% من السوريين من الفقر، وبعد الانهيار الاقتصادي وموت مئات الألوف، بعد كل تلك المعطيات، أين هي خطة الأمير بندر بن سلطان التي وزعها المسؤولون في سورية على عامة الشعب؟ لماذا لم تتخذ الإجراءات لمقاومتها؟ من يصدقها الآن؟ ألم يحن الأوان ليحترم النظام والمعارضة ودول العالم كلها الكبرى في الإجرام، ومنظمات حقوق الإنسان الشكلية الوهمية، والفضائيات ببرامجها الندابة النواحة على سورية والشعب السوري، ألم يحن لكل تلك الجهات أن تحترم الشعب السوري، وحقه في حياة حرة كريمة بلا نفاق وتمثيليات وحبوب هلوسة، وعبارات خلصت، خلصت، خلصت، وتوزيع أوراق المؤامرة للأمير بندر بن سلطان. إلى متى سيُعامل السوريون كبهاليل؟
قد تكون ذاكرتي مشوشة من هول ما أشهد وأتألم، كأحبائي السوريين. لكن تلك الأحداث أعتقد أنها بالغة الأهمية، لتعطي صورة كيف يُعامل الشعب السوري، وبأي ضلال واحتقار يتعامل معه المسؤولون والعالم بأسره. إنها ثورة كرامة حقاً، وثورة حرية بلا أدنى شك.
Discussion about this post