الثقافة والسياسة.. وأنماط العلاقة
يقول الناقد البريطاني توماس إليوت ( أن الثقافة أصبحت بوجه عام قسماً من السياسة، بعد أن كانت السياسة في عهود أخرى تُمارس داخل ثقافة ما ).
في تاريخ الحضارات الإنسانية، ظلت العلاقة بين الثقافة والسياسة في حالة تغيّر وتبدّل بالفكر الإنساني، تبلورت حولها العديد من التصورات التي حاولت ضبط هذه العلاقة والسيطرة عليها، أو محاولة فهمها وتفسيرها أو تفكيكها وتركيبها.
في أواخر ثمانينيات القرن العشرين صدرت دراسة في فرنسا من إعداد بعض الباحثين الفرنسيين، عالجت إمكانية أن تكون الثقافة بديلاً عن السياسة في إنماء وتطوير وتحسين العلاقات الدولية، وفي معالجة الأزمات والتوترات بين الدول. واعتبرت الدراسة أن الثقافة في الوقت الحاضر تُفهم بشكل أكثر اتساعاً مما كانت عليه في ماضٍ قريب، وأنها تهدف إلى تناول الإنسان بكليته جسداً وروحاً وعقلاً ووجداناً، ويُشكل هذا المفهوم عاملاً قوياً في العلاقات الدولية يتمثل في إعلان الحق بالثقافة، والحق في المبادلات الثقافية. وتخلص الدراسة إلى أن السياسة بمفردها لم تستطع أن تعالج مشكلات الأمم، فلابد من تعاضد الثقافة، وبالتالي ضرورة تطوير العلاقات والمجالات الثقافية بين الدول والشعوب.
باعتقادي أن الثقافة لا يمكن أن تكون بديلاً عن السياسة، وأن السياسة سوف تظل في حاجة إلى ثقافة. ومن الصحيح أيضاً أن السياسة بمفردها لا تستطيع معالجة مشكلات الأمم، وفي السياق نفسه لا بد من تعزيز تعاضد الثقافة والمجالات الثقافية عبر تيسير عمل الإعلام وحيادتيه ومنظمات المجتمع المدني والتربية ومناهج التعليم لنشر الوعي الثقافي بكافة اشكاله لدى جمهور المتلقين، سواء داخل البلد الواحد أو عابرة للحدود بحيث تشكل العمق الآمن لاستمراريتها وتطورها الحداثي.
إن كل ما نراه من تفاوت حاد وصارخ بين أوضاع الشعوب ما هو إلا ثمرة التفاوت في العلاقة بين الثقافة والسياسة والمتأمِّل يجد ذلك واضحاً في كل مكان من أصقاع كوكبنا، في الفرق بين الولايات المتحدة والمكسيك وبين كندا وتشيلي، وبين ماليزيا وأفغانستان …
ففي المجتمعات الديمقراطية تكون السياسة نتاج الثقافة وثمرة الفكر ويؤدي التدافع والجدل الدائم بينهما إلى تطورهما معاً، أما في الطرف المعاكس فإن الثقافة والفكر صياغة سياسية تحرم المجتمع من أسباب التجدد ضمن بيئة مغلقة وتمنعه من رؤية وارتياد الآفاق خارج السائد.
إن تحقيق الازدهار الشامل والتنمية المتوازنة المستدامة يتطلب فضاءً ثقافياً وتربوياً واعلامياً واسعاً، حيث نجد في منطقتنا الأوسطية العربية أن سلطنة عُمان قد وَجَدَت طريقها نحو التغيير المدهش السريع والحديث، فعُمان اليوم كما هي الامارات العربية نموذجٌ في التنمية والنهضة المطردّة.
كذلك نشاهد أن المشروع السعودي لنهضة المنطقة ، بدأ من الداخل حيث عمل على تغيير فكري وثقافي واسع تلقفته الفئة الاكثر نسبية وفعاليّة وهي الشباب ، وتموضعت السياسات حول رؤية حديثة ثقافية للدولة ، بإطلاق مرحلة الحوار والتقارب في المنطقة ورسم طريق جديد للاستقرار والازدهار ، قوامه تعزيز المشتركات، وفي مقدمتها تمتين التعاون الاقتصادي، وتقوية الشراكات التنموية، كون الاقتصاد هو مدخل تحقيق مصالح دول المنطقة، وتعزيز استقرارها، ولا شك بأن الفوائد التي ستجنيها المنطقة من تحقيق النماء والاستقرار الاقتصادي ستكون الضمان القوي لاستدامة العلاقات الإقليمية والدولية وفق سيادة القرار الاستراتيجي بعيداً عن تتابع الأزمات والحروب ومشروعات الفوضى .
إن للسيادة بُعدين أساسيين أولها السيادة الداخلية وهي حرية اختيار النظام السياسي الملائم للأوضاع الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية، وفي الحيازة التامة على مواردها داخل حدودها الجغرافية ومنافذها البرية والبحرية والجوية، وحصرية استخدام القوة الجبرية ضمن القانون الضامن لحقوق جميع مواطنيها دون تمييز.
اما ثانيها فهي السيادة الخارجية، التي تشير الى حق الدولة في ادارة شؤونها الخارجية بحرية ومن دون تدخل في شؤونها الداخلية او تأثير عليها من قبل دولة اخرى او جهة خارجية، اي عدم خضوعها لسلطة وتأثير دولة اخرى.
باعتقادي أن التحرر من بعض إرث الماضي الرث، وإعادة بناء الثقة، بالتعددية الثقافية – السياسية والتشاركية والديموقراطية التوافقية وتعزيز منظومة حقوق الانسان، مع توسيع شبكات الحوار والمناقشات والانشطة المدنية وتبادل الخبرات لخلق وعي جديد وثقافة جديدة قائمة على عدم التمييز والمساواة بين الافراد، وتتميز بمناقشة افكارها سواء تناغمت أو اختلفت، بما يعزز المعرفة للحوار والبناء، هو السبيل الأفضل للنهوض.
فالعقلُ الجَمْعي المُسلَّح بالسُّلطة المعرفية هو القادر على بناء الإنسان والمُجتمع معًا، والوَعْيُ الثقافي المَدعوم بالفِعل الاجتماعي هو القادر على صناعة التاريخ والحضارة معًا.
أما سورية عبر التاريخ ، فهي نهاية التواصل البحري في حوض المتوسط وبداية العمل البري ، سواءً من الأمريكيتين وأوربا بجنوبها وأفريقيا بشمالها تجاه دول الخليج وشرق آسيا والأور-آسيا والبلقان ، وهي مهد ومركز صهر الحضارات المتعاقبة وكمثال (طريق الحرير التجاري والثقافي ، أو التلاقح فكرياً بين بحّارة الساحل السوري مع أقرانهم المتوسطيين ) ، وتُؤكدها مشاهد التناظرية بين مدن ساحل المشرق مع مدن الداخل ، من شمال مصر لجنوب تركيا ، الاسكندرية-القاهرة ، يافا -القدس ، بيروت-دمشق ، طرابلس وطرطوس ، حمص وصافيتا وحماة، بانياس وجبلة-القدموس والقرداحة ، اللاذقية واسكندرون-الحفة وادلب وحلب وعفرين، إلى ما بين النهرين، وأرض كنعان وجلق الشام وشام شريف، ليست إلا “تفصيلاً” مهماً ضمن الإرث الحضاري الواسع والعميق، والبعد العالمي لسورية كفضاء ووعاء ثقافي، وهي التي كانت مُعوَلَمة ومُعولِمة قبل نشوء العولمة الأخيرة، وكحيز وفضاء كان ومازال موضع استقطاب دولي.
أيتها الدولة الأم والأب في سورية ، أبناؤك جميعاً يحتاجون رعايتك ، ويحتاجون الى أمانك عبر الدفع والرفع لثقافة المجتمع وحوامله بمنصاته المختلفة والتي ستساهم في تعزيز السلم الاهلي والاجتماعي ، وتقدم رؤية سورية اقتصادية تنموية ثقافية واقعية تشاركية ، وتستطيع مواكبة التغييرات الاقليمية والدولية بالتشبيك مع الاعلام واسع الانتشار ” الغير مسيّس ” ، وهذا ليس بكثير على شعب أجمعت أمم الأرض و قصص التاريخ كلها على عراقته وحضارته الممتدة آلاف السنين ، بالتواجد الاجتماعي البشري والانساني الفعّال في أركان هذه المعمورة .
والى لقاء آخر …
مهندس باسل كويفي .
Discussion about this post